أوروبا

السويد تطرد مواطنيها.. ذلك ليس خبرا بل انتكاسة

الحكومة السويدية وهبت المهاجرين إليها عنوانا بريديا غير أنهم في حقيقتهم ظلوا مقيمين في أوطانهم الأصلية.

أخبار السويد لا تُسر. دولة الرفاهية الاجتماعية صارت تغري مواطنيها الجدد بما يعادل 35 الف دولار مقابل التخلي عن جنسيتهم والعودة إلى أوطانهم الأصلية التي هربوا منها. ذلك القرار الذي بدا كما لو أنه مزحة اتضح أنه حقيقي. ما لا يصدقه مهاجرون مضى على إقامتهم في السويد أكثر من ثلاثين سنة. عانوا ما عانوه من أجل إنجاح برامج الاندماج التي اعترفت وزيرة الهجرة السويدية قبل سنوات بأنها كانت برامج فاشلة. وهم اليوم ينظرون إلى أحفادهم الذين ولدوا هناك وقد سبقهم آباؤهم بقلق.

ليست المشكلة في الاندماج فذلك أمر يبقى معلقا ولا يمكن البت فيه بشكل نهائي. المشكلة في التركيبة السياسية السويدية التي تخلت مع الوقت عن حيادها وصارت تفرض أجواء الحرب على بلد، لطالما اعتز بحياده وكان ذلك الحياد سببا في تفوقه واستقراره وتدني مستويات العنصرية فيه وترف العيش المتوازن الذي يستند إلى قدر لافت من التقشف. لم تحم السويد نفسها بحيادها حسب، بل أنها أيضا قدمت نموذجا فريدا من نوعه على مستوى تكريس مبادئ العدالة الاجتماعية التي يجدها المرء مبثوثة في الشارع كما في دوائر الدولة.

كل هذا صار من الماضي. أن ترتفع معدلات الجريمة بطريقة فاضحة فذلك ما يشير إلى أن الأجهزة الأمنية لا تعمل بطريقة صحيحة في ذلك البلد الذي كان مثاليا بمستوى الأمان، على الأقل قبل عشر سنوات. ولكن حصر تلك المسألة بالجانب الأمني هو تبسيط لها. ذلك لأن الجهات المسؤولة في الدولة لم تبذل جهدا كبيرا في مجال استيعاب الأيدي العاملة الفتية التي أدخلها النظام في متاهة دوائر العمل التي لم تكن في حقيقتها إلا تتمة لدوائر الرعاية الاجتماعية. كانت السويد ولا تزال في حاجة إلى الأيدي العاملة غير أن أنظمتها فشلت في احتواء المهاجرين.

قبل أكثر من عشرين سنة كانت هناك كراسات توزع على المقيمين والمواطنين الجدد تحذر من العنصرية وتشرح تفاصيلها بشكل دقيق. ضمت تلك الكراسات أرقام هواتف، يمكن الاتصال بها إذا ما شعر المرء أنه صار ضحية لسلوك عنصري. وحسب تلك الكراسات فإن السلوك العنصري قد لا يكون اعتداء جسديا. نظرة أو كلمة قد يدلان على التمييز. كانت تلك سويد أولف بالما رئيس الوزراء الذي قُتل أثناء خروجه وزوجته من السينما وسويد أنا ليند وزيرة الخارجية التي قُتلت في مركز للتسوق من غير أن تكون لديها حماية. يومها كانت السويد متصالحة مع نفسها ومع تراثها في الحياد. كان مواطنوها محايدين بدءا من رجل الشرطة وسائق التاكسي إلى موظفي الضريبة والمصارف.

ولأن السويد بلد صعب مناخيا وتركيبة اجتماعية فجارك السويدي لعشر سنوات إذا بادلك السلام فإنه يعد سويديا من طراز آخر، فإن البعض من المهاجرين كان يطوي أجنحة مغامرته ويعود طوعا إلى وطنه الأصلي.

إقرأ أيضا : بريطانيا: الحرب الأهلية في عيون ماسك

الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها دوائر الهجرة أنها سمحت بإقامة مناطق مغلقة للمهاجرين. وهي محميات تخلت الشرطة السويدية من مسؤولية الدخول إليها. “تنستا” و”رنكبي” في ستكهولم و”روزن غورد” في مالمو على سبيل المثال. تلك الأحياء الحيوية تكاد أن تكون مناطق محررة. لقد أصرت شركات السكن على تخصيص أحياء للصوماليين وللأفغان وللعراقيين ومؤخرا للسوريين. وهو ما يتعارض وشروط المواطنة. ذلك ما يعني أن السلطات السويدية أفشلت بنفسها مفهوم الإندماج حين سمحت بعزل مواطنيها الجدد حسب أوطانهم الأصلية. ذلك ما قضى على إمكانية أن تمارس الثقافة السويدية أي تأثير يُذكر. ما حدث أن الحكومة السويدية وهبت المهاجرين إليها عنوانا بريديا غير أنهم في حقيقتهم ظلوا مقيمين في أوطانهم الأصلية.

لا يحتاج العربي المقيم في السويد على سبيل المثال إلى تعلم اللغة السويدية. فهو لا يستعملها أصلا. فما دام عاطلا عن العمل فإن كل مَن في السوق يتكلمون العربية وإذا ما أضطر إلى مراجعة طبيب فإن هناك مترجما على الهاتف. ذلك وضع مريح غير أنه أفسد المواطنة. لذلك يمكن القول إن السويد التي تفكر في تهجير مواطنيها الجدد انما تصر على عدم الاعتراف بخطيئتها. وهو ما يخالف قواعد الديمقراطية. سيكون من الصعب القول إن السويد ملت من هذا النوع من المواطنين الذين صاروا يشكلون خطرا على نظامها الأمني الذي بدا مخترقا.

متاهة الصدام مع المواطنين الجدد ليست سوى وجه من وجوه الأزمة السياسية التي تعيشها السويد حين ارتفعت أسهم التيار اليميني الذي يحمل أفكارا عنصرية تسمح له بإلقاء تبعة الأزمات الاقتصادية على المهاجرين في محاولة منه للهروب من مواجهة فشل سياساته. وليس اللجوء إلى حلف الناتو والدعاية المميتة لحرب على روسيا سوى مرآتين تفضحان النفاق السياسي الذي صار على مواطني الدولة الشمالية أن يدفعوا ثمنه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى