الرد الإيراني المنتظر.. سيناريوهات ومآلات
سيناريو عدم الرد نهائيًّا، وهو ما يمكن أن يحدث في حالة التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، وضمانات من الدول الغربية لاستمرار هذا الاتفاق، وهو أمر مستبعد لعدة اعتبارات، أبرزها بحث نتنياهو عن نصر في غزة مهما كان ثمنه
بعد إقدام إسرائيل على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الشهيد إسماعيل هنية، في 31 يوليو/ تموز الماضي في طهران، بات العالم كله في حالة ترقب وتوجس من الرد الإيراني وطبيعته وأبعاده، وما قد يجرّه هذا الفعل من تبعات وتوترات قد تصل إلى حرب إقليمية.
ففي الوقت نفسه الذي عززت الولايات المتحدة فيه حضورها في المنطقة مؤكّدة نيتها الدفاع عن إسرائيل، تشهد إسرائيل نفسها حالة من الشلل والترقب في آن واحد، كما ارتفعت الأصوات المطالبة بالانتقام في طهران، مشددة على ضرورة معاقبة إسرائيل التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء بانتهاكها للسيادة الإيرانية.
هذا الواقع طرح الكثير من التساؤلات حول طبيعة الرد الإيراني وحجمه، وكذلك الخيارات المطروحة أمام الإيرانيين، وردود الأفعال المحتملة دوليًّا وإقليميًّا.
على الجانب الإيراني، دعا سياسيون وبرلمانيون إيرانيون – على رأسهم البرلماني السابق “نوذر شفيعي”- إلى الرد بعقلانية، وعدم الوقوع في فخ إسرائيل، حيث يرى شفيعي أن إسرائيل تسعى لجر إيران إلى حرب شاملة، وهو ما يجب أخذه في الاعتبار، معتقدًا أن التعامل مع ملف هنية يجب أن يكون من خلال نقطتين محوريتين، أولاهما الرد على انتهاك السيادة الإيرانية واغتيال هنية على أراضيها، والثانية منع إسرائيل من الوصول إلى أهدافها التي ترمي إليها من خلال قيامها بهذا الفعل.
وهو ما يتطلب مستوى عاليًا من التنسيق بين المؤسسات الإيرانية لتجاوز هذه المرحلة الحرجة. في حين ارتفعت أصوات إيرانية أخرى أكثر راديكالية، مطالبة بوقف إسرائيل عند حدها مهما كان الثمن باهظًا.
وعلى الجانب الإسرائيلي، تحدثت صحف عبرية عن ساعات عصيبة من التوتر والترقب للرد الإيراني، مشيرة إلى خلو الشواطئ من المصطافين، وإلغاء آلاف الحجوزات، وإيقاف بعض شركات الطيران رحلاتها من وإلى تل أبيب، فضلًا عن حالة عامة من الهلع والتوجّه إلى المخابئ وجمع المؤن، وهو ما يتسبب في حالة من الضغط على الحكومة الإسرائيلية، وتعتبره أطراف إيرانية جزءًا من الرد.
سيناريوهات الرد الإيراني
بناء على تحليلنا للحالة العامة في طهران، وقراءة الحالة العامة في المنطقة، يمكننا توقع عدة سيناريوهات محتملة، ولكل منها مسوغاتها ومبرراتها المنطقية والظرفية.
نبدأ بسيناريو عدم الرد نهائيًّا، وهو ما يمكن أن يحدث في حالة التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، وضمانات من الدول الغربية لاستمرار هذا الاتفاق، وهو أمر مستبعد لعدة اعتبارات، أبرزها بحث نتنياهو عن نصر في غزة مهما كان ثمنه، وكذلك رغبته الواضحة في تدمير قوة إيران العسكرية التي تعتبرها إسرائيل تهديدًا وجوديًّا، وذلك من خلال جرّ إيران إلى حرب مباشرة لن تكون إسرائيل فيها وحيدة، وخير دليل على ذلك ما حدث ليلة 14 أبريل/ نيسان 2024، حيث استنفرت الولايات المتحدة وبعض الدول للدفاع عن سماء إسرائيل.
كما أن هناك مبررات أخرى لاستبعاد هذا الخيار، وهي منطقية جدًا ومتفهَّمة، أولها تصريح المرشد الأعلى وأمره المباشر والصريح بتوجيه ضربة لإسرائيل، وهو رأس هرم السلطة، ورمزها الذي تستمد منه شرعيتها الدينية، بالإضافة إلى رغبة طهران في استعادة الردع إقليميًا، والحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية، التي باتت أصواتها العالية تطالب بردٍّ رادع، ورسم خط أحمر لإسرائيل ولو بالحديد و النار.
هناك سيناريو ضربة رمزية لردّ الاعتبار وحفظ ماء الوجه، على غرار ما جرى في منتصف أبريل/ نيسان، أي تجنّب إلحاق خسائر كبيرة بإسرائيل، وهو ما ينسجم مع عقيدة إيران في تجنّب الدفع لمواجهة مباشرة مع إسرائيل، على الأقلّ في هذه المرحلة، كما ترى طهران أن أي صدام مباشر ومعلن مع إسرائيل سيشكل لها ولنتنياهو الآن مكسبًا لا يقدَّر بثمن على الصعيدين: الداخلي والدولي، لكون الإجماع الراهن إقليميًا ودوليًا ضد إسرائيل سينتقل بين عشية وضحاها ليصبح إجماعًا ضد إيران، وهو ما لا تريده طهران في أيّ حال من الأحوال.
في سيناريو آخر، يمكن تنفيذ ضربة مباشرة بالصواريخ الباليستية، تستهدف أهدافًا حيوية، وهو أمر وارد جدًّا ومحتمل، لكن التفكير في الرد الإسرائيلي والمتغيرات الإقليمية يجعل هذا الخيار مجازفة قد تتعارض مع الرؤية الإستراتيجية لطهران، وتصوُّرها لإدارة الصراع مع إسرائيل..
أيضًا، هناك تصور حصول هجوم واسع النطاق بالصواريخ الجوالة والباليستية، يستهدف مواقع عسكرية، هذا بالتزامن مع هجوم بالمسيرات من طرف أنصار الله الحوثيين في اليمن، وحلفاء إيران في سوريا والعراق، وكذلك حزب الله الذي قد يقوم بهجوم بري على غرار 7 أكتوبر/تشرين الأول، وهو ما سيفسَّر على أنه انتصار لحزب الله، وردّ مناسب على اغتيال الشخص الثاني في الحزب.
هناك “المقاومة الفعالة”، وهي الطريقة التي يؤكد عليها المرشد الأعلى، والتي وضّحها رئيس قسم العقائد والسياسة في الحرس الثوري، علي سعيدي، قائلًا إن هذه المقاومة الفعالة “تعني الرد الذي لا يؤدي إلى حرب شاملة، وفي الوقت نفسه يضمن الردع بالنسبة لإيران، ويمنع تكرار الأحداث السابقة”.
وهذا الخيار يتضمن زيادة الدعم لفصائل المقاومة الفلسطينية، بالإضافة إلى حزب الله وحركة أنصار الله الحوثيين في اليمن، فضلًا عن الفصائل السورية والعراقية، وتسليحها بشكل أكبر وأكثر فاعلية، ودفعها (خصوصًا حزب الله) لاستهداف مواقع إسرائيلية حيوية، وتنفيذ الضربة بحرفية تجعلها مقنعة، وتصب في الميزان الإستراتيجي الإيراني، وهو ما يمكن أن يحقق ميزانًا ردعيًّا ظرفيًّا إلى حين استعادة زمام المبادرة والتخطيط للخطوة المقبلة.
وفي جميع الأحوال، فإن هذه السيناريوهات تشكل هواجس لدى إسرائيل، كما توسّع دائرة الترقب والقلق لدى جميع الأطراف الإقليمية والدولية، وهو ما نراه جليًّا في الاتصالات المحمومة التي تجري في المنطقة.
كما أن تحقق أحد هذه السيناريوهات، يطرح تساؤلًا أكبر عن طبيعة الرد الإسرائيلي (الرد على الرد)، فإسرائيل تتوعد بردٍّ قاسٍ في حالة تعرضها لخسائر بشرية، والولايات المتحدة تدعمها في مسعاها بشكل غير مسبوق، وهو ما قد يكون أحد أسباب تأجيل الردّ الإيراني، لكون إيران تخطط للتعامل مع الرد الإسرائيلي، بالإضافة طبعًا إلى حالة الهلع التي تعيشها إسرائيل، والتي تصبّ في مصلحة الإيرانيين.
فحالة الهلع هذه تُبقي إسرائيل في حالة استنزاف وتأهب لأطول وقت ممكن، وهو ما أشار إليه زعيم حزب الله السيد حسن نصرالله، حيث قال إن تأجيل الضربة جزء من الضربة أو جزء من الحرب، فانتظار العذاب – كما يقولون- أشد من وقوعه، الأمر الذي يفسر بدوره الأصوات الإسرائيلية التي تطالب إيران بالرد وتحضّها على ذلك، لكون حالة التأهب والاستنفار الحالية مرهقة، وتنهك ميزانية الدولة، وتلحق بها خسائر اقتصادية مهولة.
ولفهم طبيعة الرد الإيراني – والإيرانية بشكل عام – ينبغي فهم المحددات الأساسية لهذه السياسة، والتي يمكن تلخيصها في نقطتين محوريتين، هما الإطار المرجعي لأي فعل إيراني، سياسيًّا كان أم عسكريًّا:
النقطة الأولى بقاء النموذج، الذي يعني استمرار بقاء النظام الإيراني، وذلك من خلال تجنب الأخطار التي تهدد استمرار هذا النظام بشكل وجودي، وهو ما تمثله سياسة “المقاومة الفعالة”؛ فنظام الحكم في إيران نظام براغماتي يفضّل – حسب قول آية الله الخميني عشية انتهاء الحرب العراقية الإيرانية – “تجرّع السم” والبقاء بشكل إستراتيجي ومحسوب، يتيح له السير ولو زحفًا في سبيل تحقيق أهدافه الإستراتيجية، على الحماسة الثورية والمغامرة.
إقرأ أيضا : السويد تطرد مواطنيها.. ذلك ليس خبرا بل انتكاسة
النقطة المحورية الثانية هي الوصول إلى الهدف، فمن ثوابت السياسة الإيرانية قدسية الهدف ومحوريته مهما كان الطريق إلى هذا الهدف طويلًا، ومهما تطلب هذا الطريق من التضحيات، فتحقيق الهدف – والهدف فقط – هو ما يحدد حيوية وصوابية الفعل ورد الفعل، حسب إستراتيجيات محددة ومرسومة بدقة، وليس مجرد الانتقام.
وبالتالي فإن أي رد إيراني لن يخرج عن السيناريوهات السابقة، وسيكون ضمن هاتين النقطتين المحوريتين في السياسة الإيرانية.