أي مقاربة للتعامل مع هجرة الأفارقة إلى تونس
الحلول تبقى مقتصرة على الدول التي تتهددها الظاهرة وتأخذ من راحتها وأمنها وهي مرتكزة أساسا على تونس وإيطاليا، وهما الدولتان الوحيدتان اللتان تتحركان بثبات لمقاربة هذه الظاهرة ومحاولة التكيف معها.
الأساس في الملفات الشائكة والظواهر المستعصية لكي تجد طريقها إلى الحل هو وجوب أن تدرس برويّة وتمعّن، والأهم أن تكون المقاربات حولها مبنية على حلول تطبيقية ودراسة معمّقة تتسق مع الواقع، كي تسهل على المتدخلين فيها دراستها ومحاولة الإلمام بها وفهمها لتيسير سبل حلها.
قد يبدو هذا الكلام مقاربة نظرية لا تروم النزول إلى الواقع ومحاولة فهمه والوقوف على أسباب المشكلة، لكنه على المستوى التطبيقي الأساس لفهم أي ظاهرة مهما كانت درجة تفاعلها ومحاولة الإلمام بها وإيجاد مخرج لها.
الهجرة غير النظامية هي إحدى الظواهر الكبرى، وأزمة أرّقت الجميع ومازالت مستعصية على مستوى تشخيصها والإلمام بها لمحاولة فهمها والبحث فيها. ربما لأنها ظاهرة متشعبة والمتدخلين فيها كثيرون، أو لأن عناصرها متشابكة ومتداخلة يصعب معها أي فعل يروم الفهم والتعمق فيها لحلها.
في تونس يشغل هذا الملف المسؤولين والمواطنين على حد السواء، وبات تقريبا شغلهم الشاغل في الأيام الأخيرة. ظاهرة هجرة الأفارقة القادمين من جنوب الصحراء في تزايد وبأعداد كبيرة وصور يومية يتداولها التونسيون على مواقع التواصل تثير الريبة والشكوك.
الظاهرة أثارت ردود فعل كبيرة على المستوى الشعبي، وأفرزت تباينا واضحا في وجهات النظر بين التونسيين حول القرارات التي يمكن أن تتخذها الدولة للتعامل مع الأعداد الكبيرة الوافدة على بعض المدن والمحافظات، وباتت تؤرق السكان والأجهزة الأمنية على حد السواء.
أي مبادرات وقرارات يمكن أن تتخذها الدولة للتعامل مع هذه الظاهرة؟ هل سيتكرر الجدل بشأن المهاجرين وستُتهم تونس مرة أخرى بالعنصرية في كيفية التعامل معهم إلى حين تسهيل عبورهم أو إعادتهم إلى مناطقهم الأصلية؟ هل تونس قادرة فعلا على إنفاق إضافي في وقت تعيش فيه البلاد مرحلة دقيقة تستوجب التعامل بحذر مع الظاهرة؟ كيف سيكون الخطاب بشأن هذه الأزمة التي عادت إلى الظهور من جديد؟ وهل هناك محاذير في كيفية التعامل معها؟ هل هناك تنسيق مع دول الجوار وأساسا الجزائر وليبيا لاحتواء هذه الظاهرة؟ وأي رهانات مستقبلية يمكن أن تنعكس على مستقبل البلاد خصوصا في ظل التحذيرات المتزايدة من خطورة بعض العناصر التي تنتمي إلى هذه المجموعات؟
كل هذه الأسئلة وغيرها تجعل ملف الهجرة معطى أساسيا مفتوحا على الطاولة، وما على الدولة سوى التحرك سريعا لاحتوائه. لكن هناك أيضا من يرى أن الملف يمكن أن يكون أداة من أدوات الممانعة التي تُلعب ضد تونس وضد رئيسها تحديدا.
في منحى آخر لا بد أن يأخذ نصيبه هو الآخر، فإن الملف أصعب من أن يحل على منصات التواصل وعبر منشورات يومية للتونسيين وجدل كبير فرضته التعليقات المختلفة وتباين في وجهات النظر حول كيفية التعامل مع هذه الأعداد المتزايدة في كل مكان تقريبا وأصبحت تمثل حالة ضاغطة على التونسيين. لكن أيضا من حق التونسيين أن يتفاعلوا مع الظاهرة وأن يدلوا بدلوهم طالما باتت تهددهم وتنغص عليهم حياتهم اليومية. التونسيون يريدون حلولا واقعية تتعامل مع الملف بحسم، لا حلولا مبتورة ككل مرة وتعود الظاهرة إلى البروز من جديد.
أيضا، لا بد أن تكون الدولة واعية بخطورة هذه الظاهرة، وأن يتم التنسيق بشأنها مع جيرانها خصوصا أن هناك اجتماعات ثلاثية بين تونس والجزائر وليبيا باتت تعقد بصفة دورية، فإذا لم تنظر هذه الاجتماعات في أزمة حيوية ومتفاعلة وتتهدد الدول الثلاث كملف هجرة الأفارقة فما الذي يمكن أن تنظر فيه وما الفائدة منها؟
وفي محاولة للرد على بعض الأسئلة في الداخل والخارج على حد السواء، ولكي لا تكون الحكومة بعيدة عن هذا الملف، قال الرئيس قيس سعيد في كلمة له خلال اجتماع مجلس الأمن القومي بثته الرئاسة التونسية على صفحتها الرسمية في فيسبوك، إن المئات يدخلون البلاد يوميا وتمت الاثنين إعادة 400 مهاجر على الحدود الشرقية المتاخمة لليبيا.
وأضاف الرئيس التونسي “تقوم تونس بالتنسيق المستمر مع الدول المجاورة لكن لا بد أن نواجه الوضع اليوم بطريقة مختلفة لأنه لا يمكن أن يستمر”. وتابع “المهاجرون، وإن كانوا ضحايا، فلسنا نحن سببا في وضعياتهم، بل هم ضحايا نظام عالمي”.
ظاهرة هجرة الأفارقة من جنوب الصحراء إلى تونس ومنها إلى الدول الأوروبية يجب أن ينظر إليها من زاوية أخرى أيضا، وهي زاوية المعطى والحل. المعطى الأول هو أن هؤلاء تدفع بهم الحروب والأزمات الضاغطة في بلدانهم إلى الهروب واختيار البلدان المجاورة ملجأ للعبور إلى أوروبا بلد الأحلام. وما على بلدان الاستقبال مثل تونس التي ذنبها أنها على المتوسط إلا فتح حدودها لهؤلاء. المعطى الثاني أن الآليات لمعالجة هذه الظاهرة تكاد تكون غائبة في مواجهة هذه الأعداد الكبيرة من الوافدين على بلدان العبور، وبات الحل الأمني غير كاف، خصوصا في غياب أجهزة متطورة للكشف والمراقبة.
المعطى الثالث، وهو الأهم، أن بلدان أوروبا لا تريد الجلوس إلى طاولة التباحث ومعالجة الظاهرة من المنبت، وهو معطى هام مثلما اقترح ذلك الرئيس سعيد في أحد حواراته مع شركاء تونس في هذا الملف أو على الأقل المساهمة ماديا ولوجستيا لكي تتكفل بلدان مثل تونس وليبيا بمهمة ترتيب وضعية هؤلاء.
الحلول تبقى مقتصرة على الدول التي تتهددها الظاهرة وتأخذ من راحتها وأمنها وهي مرتكزة أساسا على تونس وإيطاليا، وهما الدولتان الوحيدتان اللتان تتحركان بثبات لمقاربة هذه الظاهرة ومحاولة التكيف معها.
لكن يظل الحل الوقائي لكيفية التعامل مع هذه الظاهرة هو محاولة معالجتها من المنبت، وهو حل يبدو صعبا لكنه ممكن إذا توافقت آراء البلدان المعنية بملف الهجرة الضاغطة عليها، وهذا الحل لا يمكن التباحث بشأنه إلا إذا عدنا إلى حالات مماثلة لعامي 2010 و2011 بفتح جميع الدول حدودها لهؤلاء وبغياب الرقابة الأمنية وبتكدس الآلاف عبر الحدود الأوروبية، حينها سيعود إلى هذه البلدان رشدها وتبادر إلى طلب الحل.
بخلاف ذلك، وبعيدا عن المقاربات الشعبوية التي ترى في الظاهرة تعميقا لأزمة تونس ومحاولة ضرب الدولة من الداخل، فإن الملف يجب أن يتخذ منحى أكثر عمقا ويكون التفاعل معه أكثر إيلاما وذلك بتشريك الجميع في معالجته، ودون هذا ستبقى تونس “أرض ميعاد” وتوطين للأفارقة بمليمات لا تقبلها الأعراف ولا يقبلها المنطق.