لعله من المؤكّد ألّا أحد من السوريين كان يترقّب النتائج التي سيفضي إليها الاجتماع الموسع للجنة المركزية لحزب البعث الحاكم في دمشق، الذي انعقد في الرابع من شهر أيار الجاري وأسفر عن انتخاب قيادة جديدة للحزب وعلى رأسها – كما هو معتاد – بشار الأسد، إذ طالما ركن السوريون خلال عقود مضت، إلى قناعة مزمنة بأن تغيير القيادة بات شأناً مرهوناً بما هو استثنائي وليس نتاجاً لسياقات الحياة بقوانينها الطبيعية، أي لن تتغيّر القيادة إلّا بتدخّل عوامل الغيب، كتدخّل الإرادة الإلهية، فحافظ الأسد – على سبيل المثال – لم يعد رئيساً لأنه مات، فالموت فقط، هو ما حال بينه وبين أن يستمر في رئاسة البلاد، وليس أي عامل دنيوي آخر.
وبقدر ما تجسّده هذه القناعة من مرارة ناتجة عن كم هائل من الخيبة والإحباط في الوعي العام السوري، إلّا أنها في الوقت ذاته ربما جسّدت مُنجَزاً عظيماً لنظام الحكم القائم باعتبارها تجسيداً فعلياً لشعار (إلى الأبد)، هذا الشعار الذي يختزل بالفعل فحوى المواجهة بين السلطة والشعب في سوريا، إذ يُفصح بكل وضوح عن أن الصراع بين الحاكم ومحكوميه في سوريا هو صراع وجودي يتجاوز تخوم السياسة والاختلاف في الآراء والقناعات، ولا يمكن لهذا الصراع أن ينتهي بتوافقات بينية أو بتنازلات يبادر بها هذا الطرف أو ذاك كما تحيل إلى ذلك القرارات الأممية، بل لعل النهاية الوحيدة لهكذا صراع هي اندحار طرف أمام الآخر، وهذا ما يجسّده ( الكوجيتو) الأسدي الآخر ( الأسد أو نحرق البلد).
بالطبع لم تحمل وقائع اجتماع (اللجنة المركزية) لحزب السلطة أيّ شيء استثنائي أو لم يكن متوقعاً، سوى حديث رأس النظام أمام لجنته المركزية، ولا نعني بذلك المضامين التي انطوى عليها حديث بشار الأسد، علماً أنه تفوّه بعناوين كبيرة وتوحي بالجدّية من مثل ضرورة تجديد مفهوم الانتماء القومي والخروج من المفاهيم العرقية الضيّقة والعلاقة بين الدين والقومية، كما تحدث عن الفرق بين اقتصاد السوق والاشتراكية، مستعرضاً الكثير من القضايا والمفاهيم بطريقته المعهودة التي تعتمد التهويم الخادع أكثر من الإيحاء المعرفي، ولكن ما كان لافتاً في كلامه هو شبه التسليم بما باتت عليه الحالة السورية (جغرافياً وسياسياً ومجتمعياً)، فحديثه المليء بالشغف والانبهار بالتجربة الديمقراطية للانتخابات الحزبية، وكذلك حديثه عن النضالات التاريخية لحزب البعث وتصدّيه بقوة للمشاريع والمؤامرات الخارجية في سوريا والمنطقة العربية لم يقترن بنزعة مماثلة في الحماس للحديث عن البلاد المقسَّمة التي تتوازعها أكثر من سلطة، ولا عن وحدة البلاد والكيانات المتعددة التي تتنازع عليها السيطرة والاستحواذ.
وحين استعرض رأس النظام القضايا المستقبلية التي يتوجب على أعضاء حزبه التصدّي لها لم تكن من بين تلك المهام ضرورة استعادة السيطرة على الأشلاء المشطورة من الجغرافيا السورية التي تسيطر عليها قوى إرهابية ودول داعمة لها وفقاً لبشار الأسد، فهل بات نظام دمشق مطمئنناً إلى حدود سلطته الراهنة ومكتفياً بما يسيطر عليه من الجغرافيا السورية – في ظل موازين القوى الراهنة – طالما يضمن له ذلك الاستمرار في السلطة؟ بعيداً عن أي جواب قاطع، وكذلك بعيداً عن التفاصيل، يمكن التأكيد على أن نظام دمشق لا يملك أي مبادرة ذاتية تحظى بالقوّة والتأثير على الأطراف الأخرى أو على الخصوم، من شأنها أن تجعل اهتمامه يتجاوز الحفاظ على سلطته بحدود نفوذها الراهن، أضف إلى ذلك حرصه على أن يبقى شريانه الاقتصادي حيّاً ولو بعمليات إنعاش مستمرة، ولكنه في الوقت ذاته يراهن على أمرين اثنين: يتمثل الأول باستمرار عجز المعارضة عن أن تكون ندّاً قوياً في مواجهته، نتيجة تشظّيها وارتهاناتها، وبالتالي فقدانها لزمام المبادرة الوطنية، ولئن كانت عدالة القضية السورية ومشروعية أهدافها قد تفوقت – أخلاقياً وإنسانياً – على نهج الإبادة الأسدي، إلّا أن رداءة الدفاع عن الحق وهشاشة آليات المقاومة، سواء بفعل عوامل ذاتية أم موضوعية، غالباً ما تكون لصالح الباطل. ويتمثل الأمر الثاني بالمراهنة على تغيّر المصالح الإقليمية والدولية وقدرة نظام الأسد حيال هذه التغيّرات على إحداث شروخات ولو تدريجية لكسر حالة الحصار الاقتصادي والسياسي المفروض على نظامه، وربما وجد نظام الأسد بعض الإرهاصات المغرية في هذا الجانب، وليس بعيداً عن ذلك عودته إلى الجامعة العربية وإعادة تبادل فتح السفارات مع اكثر من بلد عربي واستعادة ملف إدارة الحج من المملكة العربية السعودية، وليس آخرها عدم توقيع الرئيس الأمريكي جوبايدن على قرار الكبتاغون، وعلى ضوء ذلك ربما بدا نظام دمشق أكثر استعداداً من ذي قبل على التصالح مع الحالة الراهنة، بل يمكن أن تكون إحدى التجليات العملية لمفهوم (الدولة المفيدة) التي لوّح بها النظام منذ العام 2012.
ربما لم تكن سلطة الأسد – من بين سلطات الأمر الواقع الأخرى – هي الوحيدة النائية أو المنكفئة عن المصير السوري بامتداده الجغرافي و السكاني العام، والمنهمكة بالبحث عن مقوّمات استمرارها فحسب، بل ربما شاطرتها هذا الهمّ والسلوك كيانات أخرى، إذ لا تبدو أولوية (أبو محمد الجولاني ) زعيم هيئة تحرير الشام التي تسيطر على إدلب وأجزاء من ريفها، مغايرة أو بعيدة عن أولويات بشار الأسد، إذ إن أولوية كليهما يتصدّرها الجانب الأمني أولاً، والجانب الاقتصادي ثانياً، إذ لا عاقل يعتقد أن الجولاني يفكر في مصير السوريين سواء ممن يقيم ضمن حدود سلطته أو خارجها، بقدر ما يفكّر بتأمين مقوّمات البقاء لسلطته المتمثّلة بشخصه وبطانته، تارةً من خلال تصفيات جسدية تطال شركاء الأمس وأخوة الجهاد، وتارةً بإعادة التخطيط لانتزاع قنوات مالٍ جديدة تعزّز تدفّق الحياة في كيانه السلطوي. فيما تسعى سلطة قسد إلى تعزيز خطاب إعلامي يوحي بنزوعها إلى صلاحية تعميم تجربتها في شرق البلاد على عموم البلاد السورية، إلّا أن المعطيات الفعلية لمشروع (الإدارة الذاتية) ما تزال تؤكّد انتماءها إلى إحدى أولويات حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd) المتمثل بـ (روج آفا)، بعيداً عن مقاربة المشكلة الجوهرية في القضية السورية.
وتبقى الكيانات الرسمية للمعارضة السورية التي تصرّ على تمثيلها لثورة السوريين والتي تحظى برعاية إقليمية واعتراف سياسي دولي، والتي ما تزال تُصدّر خطاباً سياسياً وإعلامياً بدأ يفقد الكثير من مصداقيته لدى شطر كبير من أنصار ثورة السوريين، ربما بسبب التناقض القائم بين ما يضمره خطاب تلك الكيانات وبين سلوكها ذي المنحى الوظيفي الفاقد لروح المبادرة والموغل في الامتثال لأوامر الولاة والداعمين، ولعل هذا ما يجعلها لا تتجاوز –من الناحية الفعلية– مثيلاتها من السلطات الأخرى، من حيث أولوية التفكير بمصير الذات السلطوية بعيداً عن المصير السوري العام الذي ما يزال مُشرَعاً على المجهول.