بعد فرنسا، تلقّت الولايات المتحدة ضربة قوية في منطقة الساحل بغرب إفريقيا، مع اعتبار المجلس العسكري الحاكم في النيجر في نيسان (أبريل) الماضي، أنّ الوجود العسكري الأميركي في البلاد، بات غير شرعي، وعمد على نحو مفاجئ إلى إلغاء اتفاق التعاون الأمني، الذي كان معمولاً به بين البلدين منذ 2012.
وتُجري واشنطن الآن مباحثات مع المسؤولين في النيجر لسحب أكثر من 1000 جندي أميركي كانوا ينتشرون في منطقة أغاديز الصحراوية، ويديرون من هناك أهم قاعدة للمسيّرات تستخدمها الولايات المتحدة في هجمات ضدّ التنظيمات الجهادية الناشطة في غرب إفريقيا. وتُجري أميركا أيضاً مباحثات لسحب أكثر من 100 جندي منتشرين في هذا البلد.
ويبقى أبرز تحوّل سياسي-عسكري في منطقة الساحل منذ طرد القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو والنيجر في السنتين الأخيرتين، هو الطلب إلى الجنود الأميركيين المغادرة، بينما بدأت طلائع “فيلق إفريقيا” الذي يضمّ مقاتلين روساً من مجموعة “فاغنر” بالوصول إلى نيامي لتدريب الجيش النيجري، بعدما كانت القوات الأميركية تتولّى هذه المهمّة منذ 2012.
هذا التبدّل الحاصل في مواقف دول الساحل مردّه بالدرجة الأولى إلى قيام أنظمة عسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر على التوالي، وثانياً إلى مشاعر العداء التي تكنّها شعوب هذه الدول لفرنسا، الدولة المستعمِرة السابقة، والتي ظلّت تمارس الوصاية على هذه الدول حتى بعد مرحلة الاستقلال من طريق دعم أنظمة موالية لها.
واليوم، عندما تذهب هذه الدول في اتجاه روسيا، فإنّها تفعل ذلك في لحظة، أشدّ ما تكون فيها الولايات المتحدة إلى قطع أي من مصادر التمويل للكرملين. والنيجر من أغنى الدول باليورانيوم، عدا عن ثروات طبيعية أخرى.
لا يواتي أميركا هذا الانقلاب على نفوذها في المنطقة، في وقت تخوض فيه تنافساً حاداً مع روسيا والصين على مراكز النفوذ في العالم، ويهمّ واشنطن استقطاب القارة السمراء إلى جانبها في هذه المواجهة الكبرى.
وترصد الولايات المتحدة من كثب مواقف المجلس العسكري في النيجر، ولا تخفي قلقها من توطيد العلاقات بين نيامي وموسكو وبكين فحسب، بل أنّ زيارة رئيس الوزراء النيجري الأمين زين لطهران في كانون الثاني (يناير) الماضي، تسببت بقلق أكبر للمسؤولين الأميركيين الذين يخشون أن ينعكس أي تقارب بين نيامي وطهران تعزيزاً للبرنامج النووي الإيراني، كون النيجر يمتلك كل هذه الثروة من اليورانيوم.
كيف يمكن أن تردّ واشنطن على التقدّم الروسي في منطقة الساحل؟ هذا سؤال يعيد تسليط الضوء على المساعدة التي يتلقّاها الجيش السوداني من مستشارين أوكرانيين في الحرب ضدّ قوات الدعم السريع. في الأشهر الأخيرة، أحرز الجيش السوداني مكاسب ميدانية بارزة في العاصمة المثلثة، الخرطوم وأم درمان وخرطوم بحري، بفضل دخول المسيّرات الأوكرانية على خط القتال. وترى كييف، حليفة واشنطن، أنّ مصلحتها القومية تقضي بألّا تنتصر قوات الدعم السريع التي يُقال إنّها تقيم علاقات وثيقة مع مجموعة “فاغنر”، وتالياً لديها وصول إلى مناجم الذهب في مناطق سيطرة الدعم السريع في دارفور.
الربط بين تقدّم النفوذ الروسي في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وتقدّم الجيش السوداني بدعم أوكراني، ليس ربطاً مصطنعاً. وإنما منذ البداية لا يمكن الولايات المتحدة ومن قبلها فرنسا، إلّا أن تردّا على روسيا وتحاولا حرمانها من التواجد في بلد يتمتع بموقع استراتيجي وثروات هائلة مثل السودان.
ما يدور اليوم من تنازع على النفوذ بين القوى الكبرى، كان موجوداً إبّان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق. اليوم، هناك روسيا والصين وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية في محور، والولايات المتحدة ومعها أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية في محور آخر. وإفريقيا هي أحد ميادين هذا النزاع الدولي الأوسع.
أسعد عبود