بموجة عنف شرسة ضد الصحفيين، تواصل إيران حملات قمع ممنهج للصحفيين ووسائل الإعلام، حيث تصنفها منظمة “مراسلون بلا حدود” كإحدى الدول الأكثر قمعاً للصحفيين في العالم.
وتقول المنظمة التي تتخذ من فرنسا مقرا لها، إن الصحفيين في إيران “يتعرضون باستمرار للترهيب والاعتقال التعسفي وأحكام السجن الطويلة التي تفرضها المحاكم الثورية في نهاية محاكمات غير عادلة”.
ومؤخرا اتخذت الحكومة الإيرانية إجراءات قانونية ضد عدد من الصحف والصحفيين المؤثرين الذين لم يتبنوا خطابها بشأن الهجوم على إسرائيل في منشوراتهم سواء في الدوريات الصحفية أو عبر صفحاتهم على منصات التواصل الاجتماعي.
وتجاوزت الإجراءات العقابية الصحفيين لتشمل المواطنين الإيرانيين أيضا، حيث هدد الحرس الثوري الإسلامي باتخاذ إجراءات ضد أي تعبير عبر الإنترنت عن الدعم لإسرائيل.
وأطلقت الحكومة الإيرانية أكثر من 350 طائرة بدون طيار وصاروخًا على إسرائيل، ردًا على غارة جوية على مجمع قنصليتها في دمشق مطلع أبريل الماضي أدت إلى مقتل عدد من أعضاء الحرس الثوري بينهم اثنان من كبار القادة.
إسكات الأصوات
ورصدت منظمة الدفاع عن التدفق الحر للمعلومات، المعنية بمراقبة وتوثيق حرية الصحافة في إيران، محاكمات تعسفية أجرتها الجمهورية الإسلامية حيال ما لا يقل عن 91 صحفيًا وناشطًا إعلاميًا ومنافذ إعلامية.
وقالت المنظمة في تقريرها ربع السنوي الأخير، إنه صدرت أحكام على 24 صحفيًا ومديرًا تنفيذيًا في وسائل الإعلام بالسجن لمدة إجمالية بلغت نحو 15 عامًا وغرامات إجمالية تعادل أكثر من 15 مليون دولار أمريكي، كما تضمنت الأحكام أيضًا حظر السفر والعمل واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي للعديد من الصحفيين.
وأضافت المنظمة أنه تم اعتقال 12 صحفياً وناشطاً إعلامياً تعسفياً، حيث تم نقل ثلاثة صحفيين إلى السجن واستدعاء تسعة صحفيين من قبل السلطات القضائية والأمنية.
وفي ما يقرب من 100 حالة، حُرم الإعلاميون من الزيارات العائلية والوصول إلى محام، وتعرضوا لمصادرة ممتلكاتهم الشخصية دون حكم قانوني، وتعرضوا للسجن خارج نطاق القضاء في الحبس الانفرادي.
خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2024، كان الاتهام الأكثر شيوعًا ضد الصحفيين والناشطين الإعلاميين في إيران هو “نشر الأكاذيب لإزعاج الرأي العام”، وهو ما يشكل 64 بالمئة من القضايا القانونية.
وتقول المنظمة إن هذا يرمز إلى “الجهود المنهجية التي تبذلها الجمهورية الإسلامية لتشويه سمعة الصحفيين ووسائل الإعلام غير الحكومية خارج حدود القانون الجنائي”.
ولدى إيران تاريخ طويل في استخدام اتهامات غامضة ضد الصحفيين والمتظاهرين والمعارضين في محاكمات قضائية لا تفي بالمعايير الدولية بشكل صارخ.
و”الدفاع عن التدفق الحر للمعلومات” هي منظمة غير حكومية بدأت العمل في ذكرى انتفاضة الشعب الإيراني في سبتمبر 2023، وتسعى إلى توثيق الضغوط التي تتعرض لها الإعلاميون ومراقبة قمع المعلومات في إيران.
والأسبوع الماضي، أصدر الموقع الناطق باللغة الفارسية التابع للاتحاد الدولي للصحفيين، تقريره السنوي حول القمع والضغوط التي تعرض لها الصحفيون الإيرانيون خلال العام الماضي.
وأوضح التقرير أن عام 2023 شهد اعتقال ما لا يقل عن 27 صحفيًا وناشطًا إعلاميًا، واستدعاء 27 صحفياً، والحكم على 21 آخرين بعقوبات تشمل السجن.
وأشار التقرير إلى تقييد الصحفيين بسبل أخرى مثل الطرد من أماكن العمل، وحرمان بعض الصحفيين من العمل، والاعتقال والإيقاف والإغلاق وإلغاء تراخيص النشر لبعض الصحف.
ويقول مراقبون ومحللون إن العداء تجاه الصحافة والإعلام تصاعد في إيران بشكل لافت منذ الثورة الإسلامية عام 1979، لكن إحدى أحلك الفترات التي عاشها الصحفيون بدأت باحتجاجات على مستوى البلاد أشعلتها وفاة مهسا أميني أثناء احتجازها لدى الشرطة في سبتمبر 2022 بتهمة ارتدائها “غير اللائق” لحجاب رأسها.
وفي أعقاب اندلاع احتجاجات شعبية واسعة في عموم البلاد لقبت آنذاك بمظاهرات “الحياة والحرية”، تم استدعاء أو اعتقال أكثر من 90 صحفيًا ومراسلًا ومصورًا صحفيًا في إيران، كما واصلت المؤسسات الأمنية استخدام الأدوات القضائية لقمع الصحفيين.
وقامت السلطات الإيرانية بقمع الاحتجاجات التي عمت البلاد باستخدام القوة المفرطة والمميتة، ما أسفر عن مقتل مئات المتظاهرين، كما تم اعتقال عشرات الآلاف من المتظاهرين والمدافعين عن حقوق الإنسان بتهم مشكوك فيها، وأصدرت أحكاماً بالإعدام في بعض المحاكمات.
في فبراير 2023، أعلنت السلطات الإيرانية عن عفو واسع النطاق، شمل إطلاق سراح العديد من المعتقلين وكذلك العفو أو تخفيف الأحكام بحق المعتقلين أو المتهمين أو المحتجزين أثناء الاحتجاج.
لكن وسائل إعلام محلية وأجنبية شككت في هذه الخطوة، وقالت إن السلطات الإيرانية استدعت مجددا العديد من الصحفيين والنشطاء والمتظاهرين الذين تم إطلاق سراحهم، وتم اعتقالهم على خلفية اتهامات قديمة وجديدة.
ولدى إيران محكمة خاصة تتمتع بسلطة مراقبة وسائل الإعلام المطبوعة ويجوز لها تعليق النشر أو إلغاء تراخيص الأوراق أو المجلات التي ترى هيئة المحلفين أنها مذنبة لنشر مواد معادية للدين أو تشهير أو معلومات تضر بالمصلحة الوطنية.
ووفق القانون الإيراني، يحظر على وسائل الإعلام انتقاد المذاهب الإسلامية -كما تفسرها الحكومة الإيرانية- أو التشكيك في المعتقدات الشيعية أو إهانة الرموز والقيادات الدينية في الدولة.
حرية افتراضية
تعد شبكة الإنترنت هي المنتدى الرئيسي للأصوات المعارضة في إيران، إذ يستخدم الشبكة العنكبوتية نحو 78 مليون مستخدم بحلول يوليو 2022، أي ما يعادل 91 بالمئة من تعداد السكان البالغ نحو 89 مليون نسمة.
وتقوم السلطات بشكل روتيني بحظر أو تصفية المواقع التي تعتبرها غير مرغوب فيها، وعادة ما تتهم هذه المواقع بتقديم محتوى إباحي أو مناهض للإسلام.
في المقابل يستخدم الإيرانيون الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN) وطرق أخرى للتحايل على التصفية والاطلاع على محتوى تلك المواقع المحجوبة.
وتحجب السلطات الإيرانية عددا من منصات التواصل الاجتماعي، ورغم ذلك يعتبر “فيسبوك” -رغم الحجب- من بين المنصات الأكثر شعبية في إيران، يليه “تويتر” المحجوب لدى المواطنين العاديين، لكن القادة وكبار المسؤولين ينشطون عليه.
وتخضع جميع عمليات البث الفضائي من الأراضي الإيرانية لسيطرة الدولة بشكل كامل وتعكس الأيديولوجية الرسمية لحكامها، كما تدير إذاعة جمهورية إيران الإسلامية المملوكة للحكومة، الخدمات المتلفزة الوطنية وإقليمية.
ورغم الحظر المفروض على استخدام معدات الأقمار الصناعية، فإن القنوات التلفزيونية الأجنبية تتم مشاهدتها على نطاق واسع في البلاد، وهو ما تتسامح معه السلطات الإيرانية إلى حد ما، إذ تبث العشرات من المحطات الناطقة باللغة الفارسية من الولايات المتحدة وأوروبا والإمارات.
وعندما فرضت وسائل الإعلام الرئيسية رقابة على تغطيتها للاحتجاجات الشعبية خوفا من الانتقام، لجأ العديد من الصحفيين إلى وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن آرائهم وإعداد التقارير المكتوبة والمصورة عن الأخبار والتحركات الشعبية الحاشدة.
وجميع وسائل الإعلام الإيرانية إما تديرها الدولة أو شبه مستقلة وتخضع لرقابة شديدة، كما تواجه المطبوعات الآن تحديات إضافية في مجال التوظيف، حيث يخشى قادة غرفة الأخبار من أن السماح للزملاء المعتقلين بالعودة إلى العمل قد يؤدي إلى تدقيق السلطات.
وقالت لجنة حماية الصحفيين (غير حكومية، مقرها نيويورك) آنذاك إن الصحفيين داخل إيران “يُنظر إليهم على أنهم يشكلون تهديدًا”، ما يترتب على ذلك جملة من الإجراءات القمعية.
وعقب عام واحد على الاحتجاجات، أعلنت الحكومة الإيرانية في سبتمبر 2023 عن اعتزامها إنشاء نظام ترخيص للصحفيين العاملين في البلاد.
وأعرب الاتحاد الدولي للصحفيين (غير حكومي، مقرها بروكسل) آنذاك عن بالغ قلقه حيال هذا الإجراء وقال إنه “سيوسع من سيطرة السلطات على المعلومات، ويخنق بقايا الصحافة المستقلة، ويؤدي إلى تفاقم حملة القمع على وسائل الإعلام المحلية والدولية في إيران”.
وهذه ليست المرة الأولى التي تحاول فيها الحكومة الإيرانية إنشاء نظام لاعتماد للصحفيين، ففي عام 2013 قدمت السلطة التنفيذية مشروع قانون يهدف إلى القيام بذلك، لكنه تعثر في التمرير بسبب اندلاع احتجاجات ضده داخل الأوساط السياسية والحقوقية والإعلامية.
صحفيون في المنفى
وتدفع حملات القمع والاستبداد في إيران، مئات الصحفيين إلى الحياة في الخارج منذ أكثر من عقد من الزمن، حيث يواجه معظم هؤلاء الصحفيين في المنفى أحكاما بالسجن في بلادهم، إضافة إلى تهديدات بالقتل ومضايقات سواء في الواقع الحقيقي أو الافتراضي.
وتقول لجنة حماية الصحفيين الدولية، إن أعداد هؤلاء الصحفيين الذين قدّمت إليهم اللجنة دعماً ماليا وقانونيا في المنفى على مدى السنوات الثلاث الماضية زادت بنسبة 225 بالمئة.
وأضافت اللجنة الدولية: “أوشكنا على تسجيل رقم قياسي لأعداد الصحفيين السُجناء، وقد بلغت أعداد القتلى من الصحفيين رقماً لم يُسجّل منذ عام 2015، إذ تتزايد الرغبة لدى أنظمة مثل إيران وروسيا في إحكام السيطرة على الكلام داخل وخارج البلاد”.
وفي أبريل الماضي، أعربت منظمة “العدالة من أجل إيران” عن قلقها البالغ إزاء زيادة الضغوط على الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان بالمنفى والمجتمع المدني الإيراني بأكمله.
ودعت المنظمة، في بيان، المجتمع الدولي والحكومات الأوروبية، إلى زيادة حماية الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان والمجتمع المدني الإيراني بالخارج، محذرة من عواقب تهديدات النظام الإيراني العابرة للحدود ضد حرية التعبير.
وأشار البيان إلى أن تضامن المجتمع المدني الإيراني ومؤسسات حقوق الإنسان في تقديم المعلومات للشعب وإنشاء آليات مستقلة لتقصي الحقيقة وتوثيق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ومحاولة محاسبة المنتهكين، قد أثار غضب السلطات الإيرانية التي هددت مرارا وتكرارا الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان من خلال المنصات الرسمية.
وفي 10 أبريل الماضي، أعلن القضاء الأميركي أنه وجه إلى أربعة “عملاء للاستخبارات الإيرانية” تهمة التآمر لخطف الصحفية الأميركية من أصول إيرانية مسيح علي نجاد، والتي تقيم في الولايات المتحدة وتنشط في مجال حقوق الإنسان.
وفي 29 مارس الماضي، طعن مجهولون مذيع قناة “إيران إنترناشيونال” بوريا زراعتي، ما أثار إدانات واسعة من قبل الصحفيين ووسائل الإعلام والناشطين السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي.
وتعرض بوريا زراعتي لطعن بالسكاكين من قبل مجهولين أثناء خروجه من منزله في لندن وأصيب في ساقه، ولم يتم حتى الآن اعتقال أي شخص على صلة بهذا الهجوم، كما لا توجد تفاصيل حول الدافع المحتمل للمهاجمين.
وهدد قادة النظام الإيراني مرارا موظفي قناة “إيران إنترناشيونال” وغيرهم من الصحفيين الإيرانيين المقيمين في الخارج واتخاذ إجراءات ضدهم.
خطوط حمراء
بدوره قال الدكتور محمد السعيد عبدالمؤمن، أستاذ الدراسات الإيرانية بمصر، إن طبيعة وضعية الصحافة في إيران تجعلها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالنظام السياسي سواء على صعيد الملكية أو التوجهات العامة، وبالتالي فلا توجد وسائل إعلام تبث من الأراضي الإيرانية لها حرية التغريد خارج السرب.
وأوضح عبدالمؤمن في تصريح لـ”جسور بوست” أن النظام السياسي القائم في إيران جاء في أعقاب ثورة إسلامية ضد نظام سابق كان يجعل من الصحافة أداة للسيطرة على الحكم، وانتقل هذا الأمر للنظام الجديد الذي تولى مقاليد الحكم منذ عام 1979، ولكن تحت سيطرة عمائم رجال الدين، فأصبحت الصحافة منبرا للتعبير عن فكر وعقيدة نظام الملالي في إيران.
وأضاف: “نظام الحكم في البلد الفارسي فرض رقابة شديدة وأحكم سيطرته على الصحافة والإعلام خوفا من تجاوز الخطوط الحمراء واستعداء الشعب على سياساته، لا سيما ضد الدين أو الأمن القومي أو الفقهاء الإسلاميين، وبالتالي انتقلت الصحافة من قيود الحكم الملكي لقيود حكم الملالي أو علماء الدين”.
وأشار محمد السعيد إلى أن التحركات الجماهيرية الغاضبة في إيران التي اندلعت على إثر وفاة مهسا أميني أدت إلى فرض مزيد من التشديدات على الصحافة والإعلام، حيث سعى النظام السياسي إلى كبح جماح موجة الغضب الشعبي من خلال السيطرة على وسائل الإعلام باعتقال ومحاكمة الصحفيين وإغلاق المؤسسات الصحفية وغيرها.
وتابع: “ما يشغل الجزء الأكبر من اهتمام وتركيز النظام السياسي في إيران هو عدم المساس بالزعامة الدينية في البلاد أو التجرؤ على انتقاد توجهات الزعيم الديني، وهي العوامل التي تجعل أذرع النظام في حالة تأهب كامل لكل ما يبث أو ينشر من وسائل الإعلام في إيران”.
ويرى مراقبون أن الاحتجاجات النسائية التي عمت البلاد عقب وفاة مهسا أميني تمثل أكبر تحدٍ داخلي للنظام الإيراني منذ قيام الجمهورية الإسلامية في عام 1979، لكن في المقابل لم تكن السلطات الإيرانية على استعداد للإذعان لمطالب المتظاهرين والمتظاهرات خاصة مطلب إلغاء ارتداء الحجاب أو إلغاء القيود المفروضة على الصحافة والإعلام.