سعت إسرائيل منذ تأسيسها إلى عسكرة مجتمعها، انطلاقا من نظرتها، ونظرة الحركة الصهيونية عموما، إلى نفسها أنها قوة استعمارية، احتلت بلادا واستوطنت فيها. ويعتبر التأبين الذي ألقاه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، موشيه ديّان، في مطلع أيار/مايو العام 1956، عند قبر الجندي روعي روتبرغ، أحد أبرز الدعوات لعسكرة المجتمع الإسرائيلي.
وقال ديان حينها “إننا جيل الاستيطان، ومن دون القبعة الفولاذية وفوهة المدفع لن نتمكن من زرع شجرة وبناء بيت”. ولاحقا، كتب عالم الاجتماع الإسرائيلي، باروخ كيمرلينغ، حول ذلك أن “هيمنة هذه الرسائل، وخاصة ظروفها ونتائجها المؤسساتية والسياسية، صممت طبيعة المجتمع الإسرائيلي بشكل حاسم”.
وتعززت نزعة العسكرة الإسرائيلية في أعقاب احتلال العام 1967، في موازاة التوسع الاستعماري واتساع حركات الاستيطان، في الضفة الغربية بداية، ثم في قطاع غزة وهضبة الجولان وشبه جزيرة سيناء، بقيادة تيار الصهيونية الدينية ودعم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، التي كان هذا التيار شريك دائم فيها، ممثلا في حزب “المفدال”، الذي انتهى نشاطه في العام 2008، ليحل مكانه في العام نفسه حزب “البيت اليهودي”، برئاسة نفتالي بينيت، وبعد ذلك حزب “الصهيونية الدينية” برئاسة بتسلئيل سموتريتش.
في موازاة ذلك، تطور واتسع تيار “الحريديين القوميين”، الممثل اليوم بحزب “عوتسما يهوديت” برئاسة إيتمار بن غفير. وخلال ذلك تأسست حركة “شبيبة التلال” التي استوحت تسميتها من دعوة أريئيل شارون في خطاب أمام المجلس المركزي لحزب الليكود، في العام 1998، للمستوطنين أن “هرولوا واحتلوا التلال” في الضفة الغربية، وبعدها بدأت إقامة البؤر الاستيطانية العشوائية.
ورغم أن الصهيونية الدينية والحريدية القومية يعتبران التياران الأكثر تطرفا في الحلبة السياسية الإسرائيلية، وكانا التيارين المركزيين في توسيع الاستيطان، إلا أن التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية لم يكن سيتحقق من دون دعم وتشجيع الحكومات الإسرائيلية.
وتعزز هذا الدعم منذ عودة بنيامين نتنياهو إلى منصب رئيس الحكومة، في العام 2009. واتسعت هيمنة الصهيونية الدينية خصوصا، كتيار له تأثير واسع داخل الجيش الإسرائيلي ووصول عناصر في الصهيونية الدينية إلى رتب عسكرية رفيعة، مستفيدين من العقائد العسكرية المتشددة والقاتلة التي وضعها الجيل المؤسس للجيش، من أمثال ديان ويغآل يادين ويتسحاق رابين، الذين كانوا ينتمون لحزب “مباي” الذي أصبح حزب العمل.
في ظل هذه التطورات، أقام الجيش الإسرائيلي وحدة تم تخصيصها للحريديين الذين يعارضون الخدمة العسكرية، باسم “هَناحال هَحَريدي”، لكن جنودها ينتمون إلى تياري الصهيونية الدينية والحريدية القومية المتطرفين وقسم منهم نشطوا في حركة “شبيبة التلال” التي تركز على الاعتداءات الإرهابية ضد الفلسطينيين، وأدين سموتريتش وبن غفير بتأييدهم، فيما إسرائيل الرسمية تمتنع عن ملاحقتهم ومحاكمتهم حتى عندما ينفذون اعتداءات ضد القوات الإسرائيلية، التي تساندهم في مهاجمة الفلسطينيين.
وتحولت تسمية “هناحال هحريدي” إلى “نيتساح يهودا” (أي “يهودا الأبدي”)، المعروفة بعنصريتها وشراستها ضد الفلسطينيين. إلا أن طبيعة هذه الكتيبة لم يمنع الجيش الإسرائيلي من تركيز مهامها في الضفة الغربية، ما يوحي إلى تعمد إسرائيل الرسمية التنكيل بالفلسطينيين.
وتشكلت كتيبة “نيتساح يهودا” في العام 1999، أي عندما كان زعيم حزب العمل حينها، إيهود باراك، رئيسا للحكومة. وطوال السنين الماضية ذاع صيتها ككتيبة تنكل بالفلسطينيين، بينهم الذين يحملون جنسية أميركية، وتساند مستوطنين إرهابيين. ونشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية تقارير كثيرة عنهم.
لذلك، بعد حوالي 25 عاما من ممارساتها المعروفة، لا يبدو جديا قرار إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، بفرض عقوبات على كتيبة “نيتساح يهودا”، تتمثل بعدم استخدامها أسلحة أميركية أو منع جنودها من دخول الأراضي الأميركية، خاصة أن هذا القرار جاء في موازاة مصادقة الكونغرس على مساعدات لإسرائيل بمبلغ 14 مليار دولار، وفي ظل التسليح الأميركي غير المسبوق وبكميات هائلة لإسرائيل، إلى جانب دعم بايدن المسياني لإسرائيل.
وكتيبة “نيتساح يهودا” لا تمثل وحدها الشرّ العسكري الإسرائيلي، وإنما الجيش الإسرائيلي هو الشر الحقيقي. بل هو شر مفرط، ليس ضد الفلسطينيين فقط وإنما ضد الجنود الإسرائيليين أنفسهم. وفي تأبينه المؤسس لعقيدة عسكرية، قال ديّان إن “هذا قدر جيلنا. وسبيلنا إلى الحياة هو أن نكون جاهزين ومسلحين، أقوياء وأشداء، وإلا سيسقط السيف من قبضتنا وتُقطع حياتنا”.
في هذ السياق، تأتي العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي يطلق عليها “إجراء حنبعل”، الذي بدأ الجيش الإسرائيلي باستخدامه في العام 1986، ويسمح لضباط ميدانيين العمل بأي طريقة لمنع أسر جندي إسرائيلي من خلال إصدار أوامر بإطلاق نار على آسريه، حتى لو أدى ذلك إلى مقتل الجندي الأسير.
وكانت صحيفة “يديعوت أحرونوت” قد كشفت عن أن الجيش الإسرائيلي استخدم “إجراء حنبعل” ضد الأسرى الإسرائيليين في 7 أكتوبر، بمطالبة قواته أن توقف “بأي ثمن” أي محاولة لمقاتلي حركة حماس للعودة إلى غزة، “رغم التخوف من أنه برفقة بعضهم يوجد مخطوفون”. وقُتل قرابة ألف مقاتل ومواطن فلسطيني بقصف مروحيات قتالية ومسيرات لحوالي 70 مركبة، تواجد فيها أسرى إسرائيليون، وفي بعض الحالات على الأقل قُتل كل من تواجد في المركبة، وفقا للصحيفة.
وبإيحاء من عقيدة الجيش الإسرائيلي، أصدر الضابط باراك حيرام، أمرا لدبابة بقصف منزل في كيبوتس “بيئِري”، في 7 أكتوبر، رغم علمه بتواجد أسرى إسرائيليين إلى جانب مقاتلي حماس. وأسفر القصف عن مقتل 12 إسرائيليا.
ولأن هذه هي صورة الجيش الإسرائيلي، ليس مستغربا الغضب الذي تفجر في إسرائيل بعد قرار العقوبات الأميركية على كتيبة “نيتساح يهودا”، وهو غضب يعبر في مضمونه عن تخوف من اتساع العقوبات لتشمل قادة عسكريين وسياسيين إسرائيليين.