المطلوب أميركياً لمنع حرب إقليمية
لقد أصبح خطر نشوب حرب إقليمية الآن أكثر خطورة، كما أنّ التباطؤ الأميركي الذي أدّى إلى مثل هذا الدمار في غزّة لن ينجح هذه المرّة أيضاً
لم يكن ما حدث بين إسرائيل وإيران محصوراً بينهما، ولكن المجتمع الدولي، والولايات المتّحدة بالذات، لعب دوراً مهمّاً فيه، ودفعت أميركا وفرنسا، حتى بعض الدول العربية، فاتورة حماية إسرائيل من إيران. ومن المؤكّد أنّ واشنطن تطالب حليفها المدلّل بدفع الثمن السياسي لما قامت به أميركا من حماية الإسرائيليين. أضف إلى ذلك أنّ إسرائيل تجاهلت نصيحة الرئيس الأميركي جو بايدن الذي طالبها بعدم الردّ على إيران، فقد جاء الهجوم الإيراني أصلاً نتيجة قصف إسرائيل البعثة الدبلوماسية الإيرانية في دمشق في 1 إبريل/ نيسان الجاري، ما أسفر عن مقتل 12 شخصاً، بينهم مسؤول عسكري إيراني كبير.
بعد أن هاجمت إسرائيل سورية مرّات عدّة من دون انتقام سوري، اعتقد الإسرائيليون أنّ الشيء نفسه سيحدُث هنا. فبعد أن اغتال الإسرائيليون علماء إيرانيين سرّاً من دون إعلان مسؤوليتهم، تمكّنوا من الإفلات من العقاب، لكنّ الفعل الوقح المتمثّل في انتهاك اتفاقية فيينا لعام 1961، الذي يجعل مهاجمة بعثة دبلوماسية جريمة حرب، كان عملاً لا يمكن للإيرانيين أن يتعاملوا معه بهدوء. تفاخرت إسرائيل بمستوى عال من الردع أمام جيرانها، واستخدمت هيمنتها العسكرية (القوات الجوّية إلى حد كبير) لإعلان تفوّقها وهيمنتها في المنطقة. ولدى إيران أيضاً طموحات مماثلة، رغم أنّها تعمل عادةً عبر وكلاء مثل حزب الله. لكنّ هجومها (إسرائيل) كان واضحاً ومن المستحيل تجاهله أو السماح بنسيانه. قرّر الإيرانيون أنّهم في حاجة إلى الردّ ومن أراضيهم، لأنّ الهجوم على البعثة الدبلوماسية كان هجوماً على تلك الأراضي الإيرانية ذات السيادة (وإن كان ذلك في سورية). مع ذلك، لم يرغب الإيرانيون في بدء حرب، بل أرادوا رسم علامة على الرمال. لقد أرادوا التأكّد من أنّ الإسرائيليين يفهمون أنّهم تجاوزوا الخط الأحمر، وأنّ الرد سيحدث. ولضمان أنّ الهجوم لن يتحوّل إلى حلقة مفرغة، أرسلوا برقية عبر الدول العربية إلى الولايات المتّحدة بالتاريخ والوقت اللذين يهاجمون فيهما. وكان هجومهم، بحسب بيان إيراني رسمي، هجوماً “محدوداً”. من المؤكّد أنّهم استخدموا مجموعة متنوّعة من المقذوفات، ربما ليكونوا قادرين على تقييم أساليب التدخّل الإسرائيلية والأميركية في المستقبل، لكنّهم تحرّكوا عبر السماء ببطء ومنحوا إسرائيل وحلفاءها متّسعاً من الوقت. ثمّ جاء الردّ الإسرائيلي الهزيل الذي لم يترك أيّ أثر يُذكر، ولكنّه حاول إعادة ترميم الردع الذي اعتبر الإسرائيليون أنّه تآكل أخيراً.
يبدو أنّ الطرفين، الإيراني والإسرائيلي، قرّرا عدم توسيع النزاع وقبول وضع جديد مبنيٍّ على توازن الرعب بينهما يذكّرنا بالحرب الباردة الأميركية السوفيتية، عندما كان الطرفان قادرين على تدمير الآخر، ما شكل رادعاً لهما. وكانت إدارة جورج بوش (الأب) قد نجحت في عام 1990، في إقناع الإسرائيليين بعدم الردّ على صواريخ سكود التي استخدمها صدام حسين في العراق ضد إسرائيل، والتي لم يكن لها أيّ تأثير ولم تؤدّ إلى خسائر في الأرواح. الأمور، هذه المرّة، مختلفة. بنيامين نتنياهو العالق في مستنقع غزّة، الذي وافق على مهاجمة البعثة الإيرانية، كان ينتظر الردّ الإيراني لمساعدته في الخروج من فشل حربه على غزّة، ولكنّ ردّه البسيط لم يُدخِل المنطقة، كما أراد، في حربٍ إقليمية، ولم ينجح في إدخال أميركا معه في الحرب ضدّ إيران وطموحها النووي، كما يكرّر دائماً.
الرئيس بايدن كان قد حذّر إسرائيل من الردّ بقوله إنّ أيّ ردّ “لن يكون في مصلحة أميركا وإسرائيل”، ولكن كلّ ما حدث لم يغير شيئاً في غزّة، فلا تزال إسرائيل متورّطة في حرب استنزاف، ولم تنجح في تحرير سجنائها أو سحق “حماس”، في حين زادت الصعوبات أمام بايدن الذي اضطرّ مندوبه في مجلس الأمن إلى الاستفراد في رفض قرار الاعتراف بدولة فلسطين، ما كشف تناقض الموقف الأميركي الذي ينادي صباحاً وليلاً بحلّ الدولتين. وقد تبيّن هذا التناقض عندما صرّحت الخارجية الأميركية إنّ الحلّ للوصول إلى دولة فلسطينية يكمن في مفاوضات مباشرة، علماً أن إسرائيل ترفض المفاوضات المباشرة منذ 2014، ورئيس الوزراء الحالي في دولة الاحتلال يتفاخر بأنّه يعمل منذ عقود على إفشال إقامة دولة فلسطينية.
إذاً، الرئيس الأميركي في ورطة مع دخول الحملة الانتخابية في الفترة الحرجة، ولكن في يده الآن ثلاث فواتير جديدة يمكن إذا اختار صرفها من الاحتلال، فهو يحمي إسرائيل عسكرياً، وفي مجلس الأمن، ورفض نتنياهو نصيحته. المطلوب هو العودة إلى مجلس الأمن وصياغة قرار وقف إطلاق نار إقليمي.
يتعيّن على روسيا (المؤيّدة لإيران) والولايات المتحدة (الحليفة القويّة لإسرائيل) أن تضعا خلافاتهما بشأن أوكرانيا جانباً، وأن تعملا معاً على صياغة قرار إقليمي ملزم لوقف إطلاق النار. وخلافاً لقرار مجلس الأمن رقم 2377، الذي صدر في 25 مارس/ آذار الماضي، بعد امتناع الولايات المتحدة عن التصويت، والذي دعا إلى وقف فوري لإطلاق النار، وقال مبعوث الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة (خطأً) إنه غير مُلزم، فإنّ القرار الجديد يجب أن يحتوي على آلية تنفيذ حقيقية، ربما بالإشارة إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. الفصل السابع هو الجزء الذي يسمح بالمساءلة الاقتصادية والعسكرية لأيّ دولةٍ عضو تنتهك ميثاق الأمم المتحدة. ويجب أن يشمل وقف إطلاق النار الإقليمي لبنان واليمن وإيران وإسرائيل، فضلاً عن الممرّات المائية في البحر الأحمر والخليج العربي وبالتأكيد، غزّة والضفّة الغربية. وقد تكون هناك حاجة إلى قوّات حفظ سلام متعدّدة الجنسيات، خصوصاً في قطاع غزّة والضفّة الغربية، لضمان امتثال الإسرائيليين والفلسطينيين.
لقد خلّفت ستة أشهر من المماطلة الأميركية الموت والدمار في المناطق الفلسطينية، وعدم التوصّل إلى حلّ للصراع الفلسطيني الإسرائيلي ساعد في دفع إيران إلى تحرّكها غير المسبوق، وإن كان محدوداً. لقد أصبح خطر نشوب حرب إقليمية الآن أكثر خطورة، كما أنّ التباطؤ الأميركي الذي أدّى إلى مثل هذا الدمار في غزّة لن ينجح هذه المرّة أيضاً. لقد حان الوقت لوقف إسرائيل أعمالها العدوانية، والعمل الجاد على إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، سواء كان ذلك بقرار أممي أو بضغط حقيقي على إسرائيل للتخلي عن حلمها بإسرائيل العظمى. عندما تحركت الولايات المتحدة، والدول الغربية الأخرى، لإنقاذ إسرائيل خاطرت، ومن ثم من حقّها المطالبة بوقف التصعيد. إذا سقطت المنطقة في جولة مفرغة من العنف، فإنّ المجتمع الدولي، ممثّلاً بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يحتاج إلى التدخل. وكان نتنياهو يبحث عن مثل هذا الوضع ليصرف الانتباه عن إخفاقاته ويتجنّب المساءلة.
ليس هذا وقت اتخاذ قرارات لإرضاء شخص واحد أو إنقاذه من شعبه. تتمتع إدارة بايدن بفرصة فريدة وقصيرة. يتعيّن عليها أن تتحرّك بسرعة وأن تقود المجتمع الدولي إلى عملية السلام من خلال الضغط من أجل التوصّل إلى وقف إقليمي دائم لإطلاق النار. وأيّ شخص ينتهك ذلك سيكون مسؤولاً أمام المجتمع الدولي.