كلما اقتربنا من تحقيق إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس، كلما توقف العالم والزمن عند هذه اللحظة ثم تعود بنا عقارب الساعة إلى الخلف عشرات السنين، وكإنك يا زيد ما غزيت.
كان أول مرة يشعر بها الفلسطينيون أنهم اقتربوا من تحقيق هذا الحلم عندما قام الزعيم الراحل ياسر عرفات يوم 15 نوفمبر 1988 بإعلان قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس في خطابه الذي ألقاه خلال انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في قصر الصنوبر بالعاصمة الجزائرية.
ومضى خمسة أعوام، وجاء اتفاق أوسلو الذي قام بتوقيعه الرئيس عرفات في البيت الأبيض في 13 سبتمبر 1993 لتشكيل ” سلطة حكم ذاتي فلسطيني انتقالي”.
وبالفعل أحث هذا الاتفاق تغييرات على الأرض اعتقد الفلسطينيون لأول مرة أن قيام الدولة أصبح حقيقة أمام أعينهم. وتلا اتفاق أوسلو عدة اتفاقات أخرى مثل اتفاقية طابا سنة 1995، ثم اتفاق واي ريفر سنة 1998، ثم اتفاقية شرم الشيخ سنة 1999، وكلّها كانت تمهيداً لاتفاق الحلّ النهائي الذي كان من المتوقع أن يكون سنة 1999 حيث من المفترض قيام الدولة الفلسطينية بعد حل جميع القضايا العالقة، مثل القدس والمستوطنات واللاجئين والترتيبات الأمنية والحدود.
وصلت المفاوضات مع الإسرائيليين، بوساطة الأمريكان غير النزيهة، إلى طريق مسدود بعد ما توصّل الراحل عرفات أن الدولة المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية التي يريدها هي ليست اطلاقا الدولة التي يريد أن يمنّ علينا بها الإسرائيليين فهم يتحدثون عن سلطة حكم ذاتي موسع ليس له سيطرة على الأرض ولا الجو ولا البحر ولا المعابروتكون عاصمتها قرية أبو ديس مع تقسيم المسجد الأقصى بين اليهود والمسلمين. وبعد أن وصل إلى طريق مسدود في المفاوضات، أطلق أبو عمار عنان المقاومة المسلحة في سبتمبر 2000 ” انتفاضة الأقصى” ليضغط على الصهاينة ويشعرهم أنه ليس لوحده وأن شعبه خلفه يدعمه ويدعم مطالبه، خاصة بعد أن اكتشف خذلان العالم له بما فيه خذلان الدول العربية.
ثم جاءت مبادرة السلام العربية عام 2002 التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز ملك السعودية من بيروت من أجل السلام في الشرق الأوسط. وهي مبادرة شاملة تثبت دولة إسرائيل وتمنحها علاقات طبيعية مع جميع الدول العربية مقابل الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية وحل عادل لموضوع اللاجئين. واعتقد العرب أن هذا العرض السخي لا يمكن لإسرائيل أن ترفضه، لكن إسرائيل لم تقبله ولم تعره أي اهتمام أو حتى مجرد تعليق. بعدها حاصرت الحكومة الاسرائيلية أبو عمار وسمموه واستشهد عام 11 نوفمبر2004 وبعدها انتخب محمود عباس رئيسا للسلطة الوطنية الفلسطينية في عام 2005 وتأمل خيراً بالوصول إلى نتيجة مع الإسرائيليين حيث اعتقد دوماً أن طريقته السلمية والشفافة ستكون أنجع من طريقة سلفه أبو عمار الذي كان معروفاً بالدهاء والمكر واستخدام كافة الأوراق الفلسطينية بما فيها ورقة حماس وكفاحها المسلح. وبالرغم من أن الأخ أبو مازن سار إلى أبعد ما يكون في تحقيق المتطلبات الأمريكية والإسرائيلية خاصة في الموضوعين الأكثر حساسية وهما الأمن والمال حيث عيّن الدكتور سلام فياض وزيراً للمالية ثم رئيساً للوزراء ليقود عملية الإصلاح وبناء مؤسسات الدولة وإعادة دمج المسلحين الفلسطينيين في الأجهزة الأمنية تحت إشراف الجنرال الأمريكي كيث دايتون إلا أن كل ذلك لم يكف الإسرائيليين وكانوا كل سنة يطالبون بمزيد من الطلبات التعجيزية حتى يتهربوا من استحقاق الوفاء بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. وصار هدف الاسرائيليين إضعاف السلطة في الضفة الغربية، وفصلها عن قطاع غزة الذي أصبح تحت سيطرة حركة حماس.
وصار كلما تحدث أحد من المجتمع الدولي مع الإسرائيليين عن قيام دولة فلسطينية، يجيبوه بضعف سلطة فتح في الضفة وتطرف سلطة حماس في غزة. ومرة يتذرعون بأنها سلطة فاسدة ومرة بأنها غير ديمقراطية وغير منتخبة. ولم تتوقف المستعمرات الاستيطانية توسعاً في القدس والضفة الغربية، بينما لم تتوقف الحكومة الإسرائيلية عن شن الحروب تلو الأخرى على قطاع غزة المحاصر، ابتداء من حرب 2006 بعد خطف غلعاد شاليت، ثم عملية “الرصاص المصبوب” 2008-2009، ثم معركة “عمود السحاب” 2012، ثم عملية “الجرف الصامد” 2014، ثم معركة “صيحة الفجر” 2019، ثم حرب عام 2021 بسبب توترات حي الشيخ جراح، ثم عملية “الفجر الصادق” 2022 وآخرها حرب الإبادة الحالية على قطاع غزة بعد عملية 7 أكتوبر 2023 النوعية التي شنتها حركة حماس على مستوطنات غلاف غزة.
وبعد سبعة أشهر من المجازر والإبادة على الحجر والشجر والبشر في قطاع غزة، يخرج علينا الأمريكان ومن خلفهم الأوروبيون ليدغدغوا مشاعرنا بشعار “حل الدولتين” وضرورة إقامة دولة فلسطينية بينما يرفضها بكل قوة وبالاجماع قادة الكيان الصهيوني. وأعجب ما في الموضوع، أن الولايات المتحدة التي أصبحت تنادي صباحاً مساءً بحل الدولتين قامت أول أمس في 18 إبريل في اجتماع مجلس الامن باستخدام حقّ النقض (الفيتو) لمنع صدور قرار يفتح الباب أمام منح دولة فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.
فما هو المطلوب الآن من أجل قيام الدولة الفلسطينية؟ هل هو مزيد من الضغط على الأمريكان لأن بيدهم الحل في مجلس الأمن، وبيدهم الضغط على القيادة الإسرائيلية، وبيدهم الضغط على الدول الأوروبية. وماذا يستطيع الفلسطينيون عمله من أجل الضغط على الأمريكان، فالسلطة الفلسطينية ضعيفة وتحت الاحتلال المباشر ومدن الضفة الغربية يقتحمها الجيش الإسرائيلي وعصابات مستوطنيه كل يوم، بينما حركة حماس موجودة تحت الأرض في قطاع غزة المدمر.
فالكل الفلسطيني مدمّر ومحاصر وضعيف. ولا يمتلك الفلسطينيون الثروات ولا البترول ولا الغاز التي تجعلهم يتحكمون باقتصاد العالم وأسواقها وعملاتها حتى يتمكنوا من الضغط على الاقتصاد الأمريكي. لا شكّ أن محور المقاومة اليوم يشكّل ضغطاً على الولايات المتحدة ومصالحها في الشرق الأوسط. بدءا من حوثيي اليمن الذين يتحكمون بكل السفن المارة من باب المندب وما لذلك من أثر اقتصادي عالمي، إلى ضغط الحركات الإسلامية في العراق التي تهدد القواعد الأمريكية واستقرارها هناك، وكذلك المقاومة اللبنانية التي تهدد أمن إسرائيل جنباً إلى جنب مع إخوتها في حركات المقاومة الفلسطينية في غزة. نعم ربما الجهة الوحيدة التي قد تساعد السلطة الفلسطينية في الضغط على الأمريكان من أجل تحقيق إنجاز الدولة الفلسطينية هي محور المقاومة. إضافة إلى أن السلطة الفلسطينية تستطيع أن تعاظم كذلك عملها الدبلوماسي مع أشقائها العرب خاصة في الخليج حيث لا يمانعون قيام دولة فلسطينية لكن المطلوب منهم توفير مزيداً من الدعم وتقديم أوراق القوة من أجل زيادة الضغط على الجانب الأمريكي لصالح الفلسطينيين. ولا بأس أن تكثف السلطة الفلسطينية من عملها القانوني في المحاكم الدولية من أجل الضغط على القيادات الإسرائيلية ومحاسبتهم واعتقالهم إن أمكن.
من الآخر، إسرائيل سوف تعمل كل ما بوسعها من أجل عدم قيام دولة فلسطينية حرة ومستقلة بعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران 1967. وهي لن تسمح بذلك إلا في حالتين: الأولى في حال هزيمتها عسكريا واستسلامها وبالتالي قد تقبل رغماً عنها قيام الدولة الفلسطينية بالقوة.
والحالة الثانية هي في تعاظم ضغط أمريكي شديد غير مسبوق عليها يهدد وجودها، لأن الجهة الوحيدة التي تستطيع ممارسة هذا الضغط هي الولايات المتحدة. فاسرائيل لا تسوى شيء بدون دعم الولايات المتحدة التي ظلت تحميها منذ نشأتها وتقدم لها المال والسلاح بوفرة دونما انقطاع.
المطلوب في المرحلة القادمة هو الضغط والضغط ثم الضغط. ضغط دبلوماسي وقانوني من السلطة الفلسطينية، وضغط من محور المقاومة.. ضغط مباشر على الولايات المتحدة وعلى أوروبا، وضغط على العرب حتى يضغطوا على أوروبا والولايات المتحدة.