قديم هو التعاون الدرامي الرسمي مع السلطة في سوريا، وبدايات التنسيق والإشراف الأمني والمخابراتي على ما تنتجه الدراما السورية في عهد البعث والأسد الأب، واستمر نظام بشار الأسد في ضبط الإيقاع الدرامي، بما يحقق مصالحه، ويحكم سطوته ورقابته على تفاصيل حياة المجتمع السوري.
قبل الثورة في سوريا (2011)، كان هناك بصيص أمل “جماهيري” بالرسائل الإنسانية والأخلاقية والتربوية التي تَبنتها الدراما السورية أو استئناس بتعليقات الهيئة الدينية الرسمية “الأوقاف” على البرامج والمسلسلات التي تمس التقاليد والقيم الاجتماعية والدينية السورية، وقد كانت هناك نشوة مجتمعية سورية وعربية مع الأعمال التي أخرجها الراحل حاتم علي في سعيه لتنشيط الذاكرة التاريخية والحضارية والوجدانية للأمة سواء في الأعمال التاريخية الإسلامية “عمر بن الخطاب، وصقر قريش، وصلاح الدين الأيوبي” أو النضالية العربية “كالتغريبة الفلسطينية”، ولكن مع انطلاق الثورة السورية، تساقطت الأقنعة عن وجوه فنانين وشخصيات شعبية، ونجوم دراميين، وتغيرت سياسة الدراما السورية، وأخذ فنانون في داخل سوريا، وتحديداً من الموالين لنظام الأسد بصياغة أعمال درامية مخيبة للآمال، تتجاهل كل الآلام والآمال التي عاشها السوريون حين خرجوا في ثورتهم للمطالبة بالحرية والحقوق الأساسية والكرامة الإنسانية، وتجاهل أولئك جميع الشعارات والأعمال والأهداف الإعلامية التي نادوا بها، وعبَّرت عن هموم الناس اليومية قبل الثورة.
قبل شهر رمضان الماضي بيومين، اجتمع ثلة من الفنانين “الموالين” مع رأس النظام السوري، وهو اجتماع ادَّعى حاضروه أن هدفه إعادة الحياة والحيوية للدراما السورية، بعد أن حمّلوا الإرهابيين السوريين “أتباع الثورة السورية”، والحصار الاقتصادي الغربي، مسؤولية الانهيار الذي أصاب سوريا حتى على المستوى الدرامي، وبأن نظام الأسد وأجهزته هم ضحية تلك الحرب والمؤامرة الكونية.
خيبة أمل يعيشها كل المعجبين والمهتمين بأولئك النجوم وأعمالهم، وهم الذين قابلوا رأس النظام السوري، وتعهدوا له باستمرار مسيرة تخدير المجتمع، وبث الفساد، والانحلال الأخلاقي، والميوعة، والعنف، وترسيخ سلطة الأسد في جغرافية مشوهة بات يحكمها رجال الأجهزة الأمنية، وبارونات المخدرات والقتل والإجرام.
أشاد الدراميون “نجوم النظام” بالاجتماع في محفل الشيطان، وبأنه كان اجتماعاً تأسيسياً لسورية الدرامية الجديدة “المفيدة”، وكانت العروض الدرامية الرمضانية، خير ترجمة لطبيعة العطاء الدرامي الملائم الذي يريده النظام ونجومه، وسوزان نجم الدين صرحت بذلك: “لقاء مثمر مع سيد الوطن سينقل الدراما السورية للأمام”، فهل مثل هذا اللقاء سينهي عقوداً من الرقابة الأمنية على ما تُنتجه هيئة الإذاعة والتلفزيون في سوريا؟ وهل ستكون النصوص الدرامية وطنية بريئة؟ وهل ستكون تلك الدراما منصفة لما حدث في سوريا من إبادة جماعية قادها الأسد شخصياً؟
كم رسالة يجب أن تنقلها الدراما “الأسدية” ونجومها عن انتهاء المعارك بانتصار الدولة “النظام”، وأهمية العودة إلى حضن الأسد، فمفرزات الحرب تكرَّست واقعياً، ولتصبح جزءاً من اليوميات التي تغلف حياة المواطن، وكل تركيزها على تكريس “القيمة الصفرية” للسوري في ظل مواجهته للأعداء، وعودة النظام السوري أقوى من السابق.
صورت الدراما السورية بلادنا على أنها غابة موحشة، وقد أظهر مسلسل “كسر عظم” ومسلسل “مع وقف التنفيذ” استحالة إخضاع الفاسدين لقانون عادل، ومنهجية إرغام الناس على القبول بالفُتات. فهي عملية إحباط المشاهد، وإظهار عجزه أمام الصراع في سوريا.
وفي إطار ابتعادها عن ملامسة هموم الناس، ركزت الدراما السورية في سنوات الحرب على حالة الرجعية التي سادت البيئة الشامية في القرن الماضي، والصراخ والجعجعة التي اكتنفت تلك الأعمال التي يريدها المنتج والمخرج. وحين يفتح المواطن المقيم في مناطق الأسد شاشة التلفاز أو مواقع التواصل الاجتماعي، بعد عودة الكهرباء في كل مرة، يرى كماً درامياً هائلاً يزيد انكساره أكثر أمام ظاهرة البلطجة والتشبيح، وغياب مفهوم القانون، ودولة المؤسسات، ومن جهة أخرى، أدت الدراما دوراً مفضوحاً جسدتها أعمال كالتي صورها المخرج “الموالي” نجدت أنزور على أنقاض مدن حمص وحلب والغوطة الشرقية، والتي كانت جميعها تَبييض لصفحة نظام الأسد، وإلصاق التُهم بالثورة والثائرين، فأعماله “فانية وتتمدد” و”تحت سماء الوطن” و”لأنها بلدي” تمجيد للأعمال العسكرية للميليشيات الطائفية، وأجهزة نظام الأسد، وكل ما له علاقة بالقتل والاغتصاب وقطع الرؤوس، والإخفاء القسري والتعذيب للأبرياء، هو من اختصاص ثوار الناتو!
فأصبحت التفاهة الدرامية السورية، أشبه بعملية غرس ثقافي أساسه العنف والإيدز والمخدرات والطبقية والواسطات والمصالح الضيقة. وحولت الدراما ونجومها، شهر العبادة والصفاء الروحي إلى شهر للترفيه والخيانات الزوجية، وجوقات الويسكي، وبارات القمار، وبيوت الدعارة، دون مراعاة لمشاعر المسلمين السوريين، والذين يزيد عددهم في مناطق الأسد على أكثر من 85٪ من نسبة السكان، وبات الحوار الدرامي حواراً مبتوراً أساسه العنف والحديث عن الخيانة؛ خيانة الزوج لزوجته والزوجة لزوجها، وخيانة الوطن “الأسد”، ويتخلل ذلك حفلات القتل، وصرخات الألم في حارات الشام المخنوقة.
الدراما السورية عملية تطبيع للفساد، وخلق ذاكرة مشوشة لدى جيل كامل من السوريين، وتبرير إجرام نظام الأسد في هذه الأعمال الدرامية، وهذا ما يفرض على وسائل الإعلام والنخب الثورية والأحرار في العالم إزالة الأعشاب الميتة من البيئة السورية عبر سلسلة توعوية تبين أن الثورة ليست فلاناً، وليست داعش والنصرة، وإنما هي ثورة بدأت بأنامل رسمت الأمل على جدران المدن السورية، ولا تزال تعيش الأمل في كل مكان ترك فيه الأسد القهر والخراب والتهجير.
اختفى عبق الياسمين الشامي النقي، ورائحة تراب الشام المفعم بحبات المطر الربيعي في شهر رمضان المبارك، وليحل بدلاً عنه أغانٍ صاخبةٍ، كما في مسلسل أولاد بديعة “فاحت ريحة البارود”. ولن تعود سوريا بلداً متجانساً، وسيكون هذا البلد ساحة صراع إقليمي ودولي، ومخبراً للمشاريع العابرة والصفقات المشبوهة، ولن يكون هذا الإعلام بعيداً عن أي تطورات سياسية وأمنية، فالسوريون سواء في مناطق الأسد أو الثورة أو الأكراد يعيشون إفلاساً بعد إفلاس، ولكن هناك من يعيش على الآلام، وتلك الدراما تَقتات منها حسب الحاجة. وفي المقابل، سوريون يعتصرون الألم، ويعيشون الفقد والقهر في مخيمات ودول اللجوء، وغابت شمس سوريا، وخف ألقها، وغابت عطاءاتها الثقافية والروحية والفنية والجمالية والحضارية والإنسانية، ولم يترك نظام الأسد خياراً للسوريين اليوم إلا الانقسام، والفوضى، وتفكيك البلد.