التعقيد الإقليمي في الملف اليمني!
تتعدّد أسباب تعقّد الأزمة اليمنيّة في الوقت الحالي، من انسداد أفق الحلّ السياسي، وتعثّر خريطة الطريق الأممية، إلى ربط الأزمة اليمنية بالتطورات الإقليمية، وتحديداً الحرب في غزّة، فأدّى ذلك إلى نقل الملفّ اليمني من مربّع الصراع السعودي الإيراني إلى مربّع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بتعقيداته
في إكراهات تداخل العامل الإقليمي بالسياق المحلّي اليمني ما يتعدّى مصادرة القرار الوطني للمجتمعات المحلّية وتحويل الوكلاء إلى أدواتٍ لفرض أجندات حلفائهم، إلى إخضاع الوضع الوطني لشروط الصراع الإقليمي وتحوّلاته حرباً وسلماً، ومستقبله أيضاً، وهو ما ينطبق على الحالة اليمنيّة بتحوّلاتها السياسية والعسكرية، وإذا كان التدخّل العسكري السعودي في اليمن فرضه الصراع السعودي الإيراني، فإنّ استئناف علاقاتهما الدبلوماسية حقّق اختراقاً في الأزمة اليمنية، تمثّل بعقد جولات متبادلة من المشاورات بين السعودية وجماعة الحوثي، من زيارة الوفد السعودي صنعاء في إبريل/ نيسان الماضي، إلى زيارة وفد الجماعة الرياض نهاية العام المنصرم (2023)، والاتفاق على خريطة طريق أممية تلبي مصالح الطرفين، إلا أنّ الحرب في غزّة أعادت الأزمة اليمنيّة، كما يبدو، إلى نقطة البداية.
تتعدّد أسباب تعقّد الأزمة اليمنيّة في الوقت الحالي، من انسداد أفق الحلّ السياسي، وتعثّر خريطة الطريق الأممية، إلى ربط الأزمة اليمنية بالتطورات الإقليمية، وتحديداً الحرب في غزّة، فأدّى ذلك إلى نقل الملفّ اليمني من مربّع الصراع السعودي الإيراني إلى مربّع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بتعقيداته، وبشكل أوسع، الصراع العربي الإسلامي مع إسرائيل، إلى جانب انعكاسات حرب غزّة على الساحة اليمنية. وإذا كان تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران قد خفّض الصراع في المنطقة، بما في ذلك الحرب في اليمن، فإنّه نتج عن تقارب المصالح والأولويات بين الطرفين، إلا أنّ تجذّر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتباين رؤى المتصارعين والمجتمع الدولي كذلك في طرق الحلّ، يجعل من الصعب تخفيض حدّة الصراع في الوقت الحالي. ومن جهة ثانية، أدّى ربط اليمن بالحرب في غزّة إلى تصديرها على حساب إنهاء الحرب في اليمن، والمضي إلى تسوية سياسية بين الأفرقاء، فإلى جانب تحوّل البحر الأحمر إلى جبهة فاعلة لمساندة المقاومة الإسلامية في فلسطين، مقابل احتشاد القوى العسكرية الدولية في السواحل والممرّات المائية اليمنية لمواجهة جماعة الحوثي التي تشنّ هجمات على السفن التابعة لإسرائيل وحلفائها، فإنّ تحوّل أولويات الوكلاء وأيضاً أولويات حلفائهم الإقليميين، يضيف تعقيداً آخر على الأزمة اليمنية، بما في ذلك تغيّر خياراتهم في إدارة الصراع.
من موقعها دولة إقليمية متدخّلة في اليمن، تركّزت الاستراتيجية السعودية، مع تغيير نهجها الإقليمي، نحو التهدئة بإنهاء تدخّلها العسكري في اليمن أولوية أمنية، تمكّنها من المضي في تنفيذ مشاريعها الاقتصادية، إذ حرصت على تلبية اشتراطات جماعة الحوثي الاقتصادية، لاستئناف العملية السياسية في اليمن، ومن ثمّ توقيع اتفاقية تنهي الحرب، وتمكّن السعودية من أنّ تصبح راعية إقليمية للتسوية المُرتقَبَة، مقابل حصولها على ضماناتٍ من الجماعة تؤمّن حدودها الجنوبية مع اليمن، إلا أنّ حرب غزّة رفعت مستوى الصراع الإقليمي والدولي في المنطقة، كما أعادت الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى الواجهة على حساب الأولويات السعودية في حلّ الأزمة اليمنية. ومع بقاء الخيار الأمني حاضراً في إدارة حساباتها الإقليمية، فإنّ حرب غزّة فرضت عليها تحدّياتٍ سياسية وأمنية أكثر خطورة من حربها في اليمن. فإلى جانب التصعيد المتعدّد الأقطاب من إسرائيل وحلفائها الغربيين مقابل قوى المقاومة الإسلامية وإيران ووكلائها، الذي أعاد رسم المشهد الأمني والعسكري في المنطقة، وأضرّ بمصالحها، فإنّ تصدّر منافسها الإيراني ووكلائها، بما في ذلك خصمها جماعة الحوثي، دعم غزّة، شكّل ضغطاً سياسياً على السعودية، من تجريدها من مركزها دولة تقود العالم السُّنّي، وتدافع عن قضاياه الجوهرية التي تحتلّ القضية الفلسطينية صدارتها، إلى عزلها عن دائرة التأثير المباشر للتهدئة في المنطقة، مقابل تهديد مصالحها الحيوية.
ومع أنّ السعودية فضّلت خيار الحياد لتجنيب نفسها تأثيرات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بأبعاده الإقليمية، فإنّ المراهنة على اتّباع سياسة دبلوماسية للتأثير بالمتصارعين لم تمكّنْها من لعب دورٍ يناسب طموحاتها الإقليمية، نتيجة تفرّد قوى دول الطوق ودولٍ خليجية بالملفّ التفاوضي بين حركة حماس وإسرائيل. ومن جهة رابعة، وهو الأهم، فرض تصعيد حلفائها من أميركا إلى إسرائيل خيارات المواجهة مع إيران عبئاً آخر على السعودية، إلى جانب أن تصعيد معسكر قوى الممانعة هجماته على المصالح الإسرائيلية والأميركية في جبهات عدّة، ومنها البحر الأحمر، شكّل ضغطاً إضافياً على السعودية، ومع محاولة تجنيب نفسها أبعاد التصعيد العسكري المتبادل مقابل تثبيت علاقة مستقرة مع إيران، منها إدانتها القصف الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق مطلع الشهر الحالي، والتي أسفرت عن مقتل عسكريين إيرانيين، فإنّ استمرار التصعيد الإسرائيلي في غزّة، وترابط الجبهات الإقليمية المساندة لفلسطين، بما في ذلك جبهة البحر الأحمر، شكّل عبئاً مضاعفاً على السعودية، انعكس على إدارتها للأزمة اليمنية، ووسائلها في حماية مصالحها.
يشكّل تصعيد أزمة الملاحة في البحر الأحمر أخطر التحدّيات التي تواجهها السعودية، فإلى جانب تعطيل خيارها بإنهاء الحرب في اليمن، فإنّه فرض مخاطر على أمنها ومصالحها الاقتصادية، جرّاء هجمات جماعة الحوثي على السفن الموالية لإسرائيل وحلفائها في البحر الأحمر، وتصاعد الدور الإقليمي لإيران في مجالها الحيوي، ومع أنّ أزمة البحر الأحمر حيّدت السعودية طرفاً إقليمياً في حرب اليمن، بما في ذلك تنصّلها من مسؤوليتها حيال تفاقم الوضع الإنساني، فإنّ تركيز الدبلوماسية الغربية والأممية على وقف هجمات الجماعة على الملاحة، أفقد السعودية موقعها في إدارة الملفّ اليمني، لأنّها لا تملك أوراق ضغطٍ على الجماعة، بل على إيران، ومن ثمّ تغيير مواقع النفوذ في الملفّ اليمني لمصلحة منافسها الإيراني.
ومن جهة ثانية، دخول منافسها الإماراتي في اليمن، في معادلة ردع جماعة الحوثي في الممرات والسواحل اليمنية، مع القوى الغربية، من خلال حلفائها في اليمن، يجرّد السعودية من أدوات الضغط على الجماعة عسكرياً، وسياسياً أيضاً، ومع أنّ الخيارات السعودية قد تجعلها تلجأ إلى وسائل غير مباشرة، من دعم القوى الغربية في هجماتها ضدّ الجماعة، إلى تحريك وكلائها في اليمن للضغط على جماعة الحوثي اقتصادياً، وذلك بإدارة أزمة المصارف التي تشهد، في الوقت الحالي، تطوّراً لافتاً، بما في ذلك مطلب فرع عدن للبنك المركزي نقل مراكز البنوك الرئيسية من صنعاء إلى عدن، إلى جانب التعويل على استمرار حاجة الجماعة لتنفيذ مطالبها الاقتصادية في التسوية السياسية، المتمثّلة بدفع رواتب موظفي الدولة في المناطق الخاضعة لها، وتقاسم الموارد النفطية، إلا أنّ انخراط السعودية في هذه المواجهة، وإن ضمنت وسائل الحياد لحماية نفسها، إلى جانب حصولها على أسلحة أميركية متطوّرة لتأمين حدوها، مع استمرار الصراع الإقليمي مع إسرائيل، وتنامي شعبية قوى المقاومة الإسلامية، سيجعل السعودية الطرف الخاسر في حال ضيّقت الخناق على الجماعة.
بوصفها قوى عابرة بولاءاتها الإقليمية، يبقى الترابط بين المحلي والإقليمي يحكم التوجّهات السياسية للوكلاء المحليين، وإذا كان الوكلاء في اليمن، على اختلافهم، ظلّوا أدواتٍ لحلفائهم في حرب اليمن، فإنّ فاعليتهم تختلف طبقاً للعلاقة المتبادلة، إلى جانب تأثيرهم في المعادلة الإقليمية، ومع أنّ جماعة الحوثي ظلّت لاعباً رئيساً في الحرب المؤقلمة، فإنّ انخراطها في جبهة المقاومة الإسلامية ضد إسرائيل، وفاعليّتها في إدارة أزمة الملاحة في البحر الأحمر ضاعف من ثقلها الإقليمي، ومنحها مكاسب عديدة، سياسية وعسكرية وشعبية، وبالتالي حرصت الجماعة على تركيز استراتيجيتها السياسية والعسكرية في الوقت الحالي بتصعيد حرب غزّة، والصراع الإسلامي ضد إسرائيل، على حساب إنهاء الحرب في اليمن، إلا أنّ نتائج هذه السياسة أكثر تعقيداً من جني مكاسب آنية تخدم أهدافها التكتيكية؛ فإلى جانب أبعاد ربط الأزمة اليمنية بالسياق الإقليمي ونتائجه على الوضع المحلي، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، فإنّ هذه الاستراتيجية قد تجعل الجماعة تواجه أدوات ضغط متعدّدة تخصم من رصيدها على المدى البعيد، وتنشأ تحدّيات تحدّ من استقرارها سلطة أمرٍ واقعٍ، ناهيك عن تعقيد إنهاء الحرب في اليمن. فمن جهة، جمّد تصعيد الصراع الإسلامي ضدّ إسرائيل، وإنْ منح الجماعة موقعاً في المعادلة الإقليمية، المسار السياسي لإنهاء الحرب في اليمن، ما أفقد الجماعة ورقة سياسية بالضغط على السعودية متدخّلاً إقليمياً، فأصبح وقف هجماتها في البحر الأحمر أولوية بالنسبة للقوى الدولية وحلفائهم الإقليميين، ومنهم السعودية، ومع أنّ الجماعة طالبت في الذكرى التاسعة لانطلاق عاصفة الحزم، في نهاية الشهر الماضي (مارس/ آذار)، السعودية بالمُضي لتوقيع اتفاقية لإنهاء الحرب في اليمن، فإنّها تجاهلت مبادرتها، ما يعني أنّ السعودية تخضع لاشتراطات حلفائها الغربيين بوقف هجمات الجماعة في البحر الأحمر أولاً. من جهة ثانية، وأمام استمرار التحدّيات الاقتصادية التي تواجهها الجماعة سلطة أمرٍ واقعٍ، مقابل تصاعد أزمة الملاحة وتداعياتها الاقتصادية، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية الأميركية جراء تصنيفها الجماعة منظمة إرهابية، يجعل الجماعة في مركز ضعيف، ومع اعتمادها على إدارة المجتمع بالأزمات، إلى جانب خوض مواجهات متقطعة في جبهة مأرب، وبعض الجبهات الأخرى للضغط على خصومها، فإنّ ندرة الموارد في المناطق الخاضعة لها وصراع أجنحتها على الاقتصاد، مقابل مضاعفة الضرائب على المواطنين، يشلّ قدرة الجماعة على تثبيت سلطتها، وإذا كانت قد لجأت أخيراً إلى طبع عملة نقدية معدنية، فئة مائة ريال.
وإن لم تظهر بعد تداعياتها الاقتصادية على عملتها المحلية، فإنّها تعكس عمق أزمة الجماعة، خاصّة في ظلّ اشتداد الصراع على المصارف مع الحكومة المعترف بها، بإعلان البنك المركزي في عدن تجميد مصارف وبنوك رئيسية عدة، وإن تراجعت عن الخطوة، فإنّها تبقى مؤشّراً على التحدّيات التي ستواجهها الجماعة مستقبلاً، في حال استمر تجميد المسار السياسي، مقابل تصعيد هجماتها في البحر الأحمر، إلى جانب مطالبة البنك المركزي في عدن بنقل مراكز البنوك الرئيسية من العاصمة صنعاء إلى عدن، التي تعني في حال تنفيذها ضربة قاصمة لسلطة الجماعة، وعلى مركزية صنعاء عاصمة يمنية، وفي حين طالبت قيادات في الجماعة السعودية بالتدخل لمنع حليفها من اتخاذ هذا الإجراء، فإنّ تحوّل السعودية إلى قوّة إنقاذ بالنسبة إلى الجماعة يعني أنها فقدت السيطرة على أدواتها التي طالما راهنت عليها لحصد مكاسبها، ومع اعتمادها على دعم حليفها العسكري واللوجستي، فإنّ الدولة المحاصرة التي تخضع هي الأخرى لعقوبات اقتصادية وتحدّيات داخلية، لن تستطيع إسعاف الجماعة لمواجهة التحدّيات الملحة التي تهدد سلطتها.