عرضت فى مقالى الأسبوع الماضى، فى نفس المكان، الرؤية الاستراتيجية المصرية عام 2024 (1)، والتى أوضحت من خلالها الأسلوب الذى تلجأ إليه الدول بشكل عام فى وضعة خطتها الاستراتيجية والذى يعتمد على التخطيط لمدة خمس سنوات مقبلة Fife Years In Advance على أن يتم تعديلها سنويا وفقا للمتغيرات على الساحة الدولية، سواء من الناحية السياسية، والعسكرية، والاقتصادية… إلى آخره، وفى هذا الإطار قمت باستعراض الاستراتيجية المصرية 2024 تجاه الولايات المتحدة، وأوروبا، وروسيا.
واليوم نستكمل حديثنا بتناول الاستراتيجية المصرية عام 2024 تجاه كل من روسيا ودول جنوب شرق آسيا، وعلى رأسها الصين، ثم الاستراتيجية المصرية تجاه دول الشرق الأوسط، وأخيرا إفريقيا.
فيما يخص الاستراتيجية المصرية نحو روسيا، التى تعد ثالث دوائر الأمن القومى المصرى البعيدة، بديلًا للاتحاد السوفيتى، الذى اعتاد أن يحتل المركز الثانى، فى ترتيب الدوائر، فيما مضى، من حيث الأهمية؛ فبالرغم من تراجع ترتيب الدائرة الروسية، إلا أن مصر أفردت لها محاور خاصة فى استراتيجية التعامل معها، بعيدة عن تلك التى حددتها سواء لأوروبا أو آسيا، وذلك لأن روسيا لا تزال إحدى أهم الدول التى تربطها بمصر علاقات قوية ومتينة على كافة الأصعدة، سواء الاقتصادية، أو السياسية أو العسكرية.
فمن الناحية الاقتصادية، كانت السياحة الوافدة من روسيا لها النسبة الأكبر من دخل قطاع السياحة فى مصر، وتغطى النسبة الأكبر من احتياجاته، فكان توقفها فى أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية ضربة قاصمة لقطاع السياحة بصفة خاصة، وللدخل القومى المصرى بصفة عامة، مازالت مصر تعانى من تبعاتها حتى الآن، آملين فى عودة السياحة الروسية إلى ما كانت عليه.
كما أن التبادل التجارى مع روسيا يمثل أهمية كبيرة للدخل القومى المصرى خاصة فى مجال المنتجات الزراعية، إذ تمثل الصادرات الزراعية من البرتقال والبطاطس المصرية إلى روسيا، نسبة كبيرة من إجمالى صادرات مصر الزراعية، أضف إلى ذلك عقد المفاعل النووى بالضبعة، الموقع بين الحكومتين المصرية والروسية، الذى يعتبر صفقة كبيرة من منظور الاقتصاد الروسى، ونقلة نوعية لمصر، تدخل بإتمامه إلى عصر الطاقة النووية، كما يمثل قيام روسيا بإنشاء المنطقة الاستراتيجية الجديدة فى منطقة قناة السويس نقلة كبيرة فى التقارب المصرى الروسى.
أما من الناحية السياسية، فإن عودة روسيا، مرة أخرى، إلى المياه الدافئة فى البحر المتوسط قد عزز من دورها السياسى فى المنطقة، خاصة دورها فى المشكلة السورية، والتى تعتبر بالنسبة لمصر امتدادًا حيويًا لأمنها القومى، ولذا تجد مصر وروسيا حريصتين على تقوية العلاقات السياسية بينهما، وهو ما يتجلى فى الزيارات المتبادلة بين رئيسيها، ولقاءاتهما الثنائية، والتى كان آخرها لقاءهما على هامش قمة دول «بريكس» الذى انعقد فى الصين وحتى على المستويات الوزارية، خاصة السيادية منها، كتبادل الزيارات بين وزراء دفاع البلدين، ووزراء خارجيتهما.
وأخيرًا، ومن الناحية العسكرية، فالسلاح الروسى، يمثل نسبة غير ضئيلة فى الترسانة المصرية؛ سواء القديم منه، الذى لايزال فى الخدمة، وتعتمد عليه العديد من أفرع ووحدات القوات المسلحة المصرية، وتحتاج عمليات صيانته إلى قطع غيار روسية الصنع، أو الحديث الذى تم التعاقد عليه فى السنوات الأخيرة، ضمن الاستراتيجية المصرية فى تنويع مصادر الأسلحة وتطوير المصانع الحربية.
وبشكل عام فإن الإستراتيجية المصرية تستهدف فى المرحلة القادمة تحقيق توازن فى علاقاتها بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية وكذلك روسيا التى لها شأن كبير فى السياسة المصرية الخارجية.
ننتقل بعد ذلك إلى الاستراتيجية المصرية نحو آسيا، التى تعكس تعاملها مع رابع دوائر الأمن القومى المصرى البعيدة، فمن وجهة نظرى لايزال هناك العديد من الجهود التى يجب أن تبذل. لاستعادة مكانة مصر، التى كانت لها فى ذلك البعد الاستراتيجى، فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر، من خلال دول عدم الانحياز. ومع ذلك، فلا ننكر الجهود القائمة والمستمرة فى التعاون مع الصين، وتنمية العلاقات الثنائية معها، باعتبارها أحد أهم عناصر تلك الدائرة الآسيوية بالنسبة لمصر، فى ظل بزوغها كقوة كبرى، وذات ثقل فى النواحى السياسية والاقتصادية والعسكرية، فضلًا عن كونها عضوًا دائمًا بمجلس الأمن، وتربطها علاقات قوية مع معظم دول قارة إفريقيا.
وقد بدأت مصر بالفعل، فى الاستفادة من الموقف الصينى، فى المجال العسكرى، ضمن خطة تنويع مصادر الأسلحة، لتوفر الصين معدات جديدة ومتطورة، بأسعار تنافسية. كما تعمل مصر على وضع خطة لاستقطاب أعداد أكبر من السياحة الصينية، ضمن خطة جديدة لتنويع مصادر الدخل السياحى، تجنبا للتعرض لهزات عنيفة، كتلك الناجمة عن توقف السياحة الروسية.
أخيرًا، تأتى الاستراتيجية المصرية نحو دول جنوب غرب آسيا، التى تعتبر اليابان وكوريا الشمالية أهم عناصرها، وبالرغم من ذلك لم تتم الاستفادة منهما على الوجه الأكمل، فحجم التعاون الاقتصادى بين كل من مصر واليابان، لا يرتقى إلى حجم الدولتين. كما أن الأوضاع السياسية فى كوريا الشمالية، قصرت حجم التعاون المصرى معها على مجال التصنيع الحربى على أضيق نطاق، لما لها فيه من خبرة.
كانت تلك نبذة عن الاستراتيجيات المصرية، وحساباتها، عند التعامل مع دول القوى العظمى صاحبة التأثير البعيد على أمن مصر القومى. أما الحديث عن المؤثرات القريبة والمباشرة على أمنها القومى، فيرتبط بمجموعة مختلفة من الاستراتيجيات، تنقسم إلى خمس استراتيجيات أساسية، يتحرك فيها المفكر الاستراتيجى المصرى، قبل اتخاذ قراراته أولها الاستراتيجية المصرية نحو الدول العربية، ثم استراتيجيتها نحو دول القارة الإفريقية.
وقد ركزت مصر مؤخرا فى عهد الرئيس السيسى حول إعادة العلاقات المصرية مع دول إفريقيا مثلما كانت فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر، خصوصا أنه فى العام القادم 2025، تعيد الأمم المتحدة تنظيم مجلس الأمن ليصبح تسعة أعضاء دائمين بدلا من خمسة فقط. ولذلك سيتم اختيار دولة من أوروبا وغالبا ستكون ألمانيا، ودولة آسيوية والاحتمالات الأكبر تتجه نحو اليابان، ودولة من أمريكا الجنوبية، وسيتم المفاضلة بين البرازيل والأرجنتين. ودولة من إفريقيا وستتم المفاضلة بين مصر وجنوب إفريقيا، ومن هنا تبذل مصر حاليا كل جهودها لتوطيد العلاقات مع دول إفريقيا لتقبل ترشيح مصر كممثلة للقارة فى العام القادم فى مجلس الأمن.
وثالثًا: استراتيجيتها نحو دول حوض النيل، تليها دول حوض البحر الأحمر، ثم خامسًا، وأخيرًا، تأتى الاستراتيجية المصرية نحو دول حوض البحر الأبيض المتوسط. يأتى هذا التقسيم والترتيب لما لتلك الدول من تأثير قوى ومباشر على أمننا القومى، خاصة من دول الجوار القريب والتى على أساسها توضع الاستراتيجيات المباشرة تجاه هذه الدول.. وتبنى عليها خطط التسليح المستقبلية للقوات المسلحة المصرية.. وعلى أساسها يتم توقيع الاتفاقات السياسية أو الاقتصادية وحتى الثقافية والرياضية.