يقول خالد العظم أحد رجالات الدولة السورية البارزين في الخمسينيات: “إنني أعتبر نفسي أحد المسؤولين كلياً أو جزئياً في الفترة بين 1943 و1958 فيما فقدته بلادي من السيادة والاستقلال، لكن المسؤول الأول هو الجيش بأركانه وضباطه وصف ضباطه، ذلك لأنه هو الذي سيطر على مقدرات البلاد منذ انقلاب حسني الزعيم في 29 آذار 1949”.
وفي حقيقة ذلك كثير من التفاصيل، تكشف عن تجاذب معظم سياسيي تلك المرحلة التي أعقبت الاستقلال بين الخط الوطني بنهجه الليبرالي الواضح والصريح وبين المتأرجحين بين محوري العراق ومن خلفها بريطانيا ومحور السعودية ومصر ومن خلفهما أميركا وهذا يشمل قسطاً من الضباط ومن النخب السياسية المدنية الذين تلوثوا بالتبعية للخارج بشكل مباشر أو غير مباشر.
وفي كلا الحالين كان كبار قادة الجيش هم الأكثر تأثيراً بما يسيطرون عليه من قوة الجيش الأكثر تنظيماً وانضباطاً والقادرين من موقعهم على إزاحة النخبة المدنية الحاكمة أو التأثير في مواقفها وقراراتها لإحداث تغييرات في القوانين والوجوه، بما يخدم مصالح هؤلاء المتحكمين. وحيث كان كل منهم يكرر الحجج والمبررات المستوجبة لذلك التغيير ويشنع على السابقين، ولكن على مبدأ ونستون تشرشل الذي قال: (بما أن الحقيقة غالية جداً، لذلك يجب علينا تحصينها بجيش عرمرم من الأكاذيب). ومن هذا المنطلق وبسبب فقدان الوسيلة والنية في تنمية البلاد على أسس الحرية والديمقراطية والعدالة واستبدالها بأولوية تأمين حماية السلطة بالاعتماد على قوة قادة الجيش المتنفذين، حين لم يكن لجهاز الأمن إلا دور متواضع في هذا المجال. وبهذا كان يتم التوزيع الهادئ للحصص والمناصب وحسم النزاعات والخصومات.
وتفاقم الأمر في عهد الوحدة المصرية السورية بتغوّل المكتب الثاني برئاسة عبد الحميد السراج وإلغاء مفاعيل الفترة الليبرالية التي امتدت ما بين 1954 و1958 وشهدت انتخابات حرة نزيهة بعيدة عن أي تدخل خارجي، حتى أن رئيس الوزارة سعيد البزي، رفض طلباً من السفير الأميركي بمنع الشيوعيين من الترشح، قائلاً: “انتخاباتنا حرة ولن نمنع أحداً” ولكن ذلك النجاح المدني، لم يمنع من تدخل متنفذي الجيش وتفتيتهم لكتلة خالد العظم البرلمانية الأكبر والتي أدت إلى خسارته لرئاسة الجمهورية في البرلمان ونجاح شكري القوتلي الأقرب إلى السعودية وأميركا المتخوفين حينها من توجهات المليونير الأحمر (خالد العظم) وعلاقاته مع السوفييت.
وفي ظل هذا التخوف في ظروف الحرب الباردة، دُفع بالعسكريين السوريين إلى إقامة الوحدة مع مصر، من دون علم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، ثم إجبارهما على توقيع تلك الوثيقة المبرمة بطابعها الأمني.
لم تستطع حكومة الانفصال 1962 الانقلابية أن تستعيد الاستقرار وعمت التظاهرات المطالبة بالوحدة وإسقاط حكومة الانفصال بالعودة إلى نهج المرحلة الليبرالية السابقة لفترة الوحدة، رغم إجراء الانتخابات البرلمانية واختيار ناظم القدسي رئيساً وتكليف خالد العظم برئاسة الوزارة، فاستغلت اللجنة العسكرية البعثية الفراغ وضعف القاعدة الشعبية لحكومة الانفصال وانقلبت عليها في 8 آذار 1963 وتوزعت السلطة والنفوذ وسرحت 154 ضابطاً بعد أيام قليلة من انقلابهم ثم تابعوا التسريح حتى بلغ عدد المسرحين خلال خمسة أشهر حوالي ألفين ضابط وصف ضابط وتم استبدالهم ببعثيين من ضباط الاحتياط ومعظمهم من الطائفة العلوية.
وبذا أفرغ الجيش من ذوي الخبرة والرتب العالية وأصدرت القيادة البعثية مراسيم ترفيع أنفسهم إلى رتب عالية، فمثلاً رفع حافظ الأسد خلال ثماني سنوات من تخرجه من الكلية إلى رتبة لواء وغدا قائداً للقوى الجوية ثم وزيراً للدفاع رغم أنه كان مسرحاً خلال سنتين إبان فترة الانفصال ورفع صلاح جديد من مقدم إلى لواء وأمين الحافظ من عقيد إلى عميد فلواء ففريق إضافة إلى أعداد كبيرة جرى ترفيعهم حسب الولاء وسيطر هؤلاء المحدثون بوصفهم قادة ليواجهوا هزيمة حزيران 1967 بهزال حقيقي وجيش مهلهل وبالانسحاب الملتبس من الجولان قبل سقوطه الفعلي.
ولتعويض خسارته دفع البعث بالشعارات اليسارية والقومية والاشتراكية الخلبية ولا سيما بعد انقلاب القيادة القطرية بقيادة صلاح جديد على القيادة القومية (ميشيل عفلق وصلاح البيطار) عام 1966 قبل الهزيمة بعام واحد. وفي المجتمع همش البعث الواجهات المجتمعية التقليدية والخبيرة والثقافية واستبدلوها بهجين سياسي شعبوي أمني استحضروه من حواشي المدن والأرياف فتفشى هذا الهجين على وجوه المجتمعات السورية كبقع الزيت، من دون أن يكون عنده أي رصيد أخلاقي أو ثقافي / اجتماعي / سياسي سوى الولاء لشعارات هوائية خلبية والتحلق حول انقلابيين احتكموا إلى الشرعية الثورية المرتجلة التي عطلت العمل بدستور الخمسينيات وقوضت مسار التنمية الذي بنته البرجوازية الوطنية السورية ولا سيما في مدينتي دمشق وحلب بمراسيم التأميم الكارثي لشركات الغزل والنسيج كالشركة الخماسية والسورية للغزل والنسيج وشركة الدبس وشركات الزيوت وبعض الصناعات التحويلية والهندسية وحولت القطاع العام إلى بقرة حلوب، يستنزفها البيروقراطيون والفاسدون وكذلك دمروا شركة الجرارات في السفيرة (حلب) بعد أن أفلسوها إفلاساً تاماً ونهبوا كل ما فيها ما عدا قطعة الأرض العارية والتي لم تزل عرضة للسمسرة أسوة بأرض منطقة البرامكة ومعرض دمشق الدولي والأحياء القديمة في دمشق وغيرها، كما دمروا كامل التراث السياحي كالآثار واللقى التي غدت في متاحف الدول الحديثة، والتي تقدم بأكمل صورة.
وعلى سبيل المثال، زرنا متحفاً خاصاً في مدينة ستراسبورغ الفرنسية يتضمن آثار (مدينة ماري) السورية واحتجنا إلى ساعة من التجوال والشرح، حتى تعرفنا على صور من تراثها الثقافي ومظاهر عمرانها وعملتها والتي تعود إلى أكثر من ستة آلاف عام .
إن هذا التتابع الزمني في مسار سيطرة العسكر وأشباههم على السلطة في سوريا، منذ بداية عهد الاستقلال وحتى يومنا هذا، إضافة لما تركته الفصائل المسلحة من كوارث على السوريين والثورة السورية والمستقبل الوطني السوري، وكذلك تجربتنا مع غرفتي الموم والموك وضعت العسكرة موضع الريبة والحذر ولا سيما بعد استجرار الفصائل المسلحة إلى محادثات أستانا ومحاولة تركيا وضعهم في واجهة التفاوض على المستقبل، ثم تجميعهم فيما يسمى “الجيش الوطني السوري” والذي ليس لمعظم فصائله من اسمه أي نصيب.
وإذا استثنينا سنوات الحكم المدني الليبرالي من 1954 إلى 1958 الذي قوضه المجلس العسكري بإعلان وحدة مرتجلة عام 1958 ذات طابع أمني استبدادي مع مصر، سنجد أن تعطيل التنمية والهزائم وتحطيم البشر والحجر على يد الوريث بشار الأسد، ما هو إلا محصلة كثيفة لوصول الحكم إلى أيد آثمة تلقفت مسار حكم العسكر وتغولت فيه إلى الجريمة المطلقة من كل قيد أخلاقي ووطني.