تتسلط الأنظار على جبهة جنوب لبنان، وما إذا كان الرد الإيراني على الضربة الإسرائيلية للقنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال قادة فيلق القدس سيكون عبر “حزب الله” المستمر بعملياته تحت عنوان “مساندة غزة”. فقد تلقى لبنان رسائل من جهات دولية عدة تحذر من انخراط الحزب في أي رد إيراني محتمل، مخافة من توسع دائرة المواجهة التي ستزيد من استنزاف لبنان وتؤدي إلى نتائج كارثية على البلد كله.
حتى الآن ليس واضحاً ما إذا كانت إيران سترد على الاستهداف الإسرائيلي، وذلك رغم الكلام المرتفع السقف لمسؤوليها. فإذا كانت تريد الرد على إسرائيل مباشرة، فليس هناك غير “حزب الله” على تماس معها، وإن كان ما تتحدث عنه إيران أنه سيكون رداً مزلزلاً، إلا أن الأمين العام للحزب حسن نصر الله أبدى استعداده حين أكد في كلمته في يوم القدس، أن “المقاومين على الحدود والجبهة الأمامية جاهزون لأي رد فعل، ونحن نحتاج فقط لاتصال عند أي رد فعل”.
أما الجولان، فتحكمه معادلات مختلفة فضلاً عن عدم القدرة الميدانية للمواجهة، إذ إن النظام السوري ليس بوارد التصعيد على جبهته ولا يملك الإمكانات لذلك، إضافة إلى أن التفاهمات الدولية التي يضمنها الروس تمنع إشعال جبهة الجولان المحتل.
إذا قررت إيران مواجهة الأميركيين، بديلاً من رد مباشر على إسرائيل، فهي لا تستطيع القيام بهذه المهمة مباشرة إلا عبر وكلائها في العراق وسوريا، وهو أمر مستبعد ما دامت واشنطن قد تبرأت من مسؤوليتها أو معرفتها المسبقة بضربة دمشق، خلافاً لما كان الأمر عليه عند اغتيال الجنرال قاسم سليماني في العراق مطلع 2020 وهي عملية نفذتها الطائرات الأميركية بقرار من الرئيس السابق دونالد ترامب. وفي الواقع تراجع هؤلاء الوكلاء عن تنفيذ عمليات في العراق بعد التهديدات والضربات على قواعدهم، بما يوحي أن هناك تسوية بعدم التعرض للأميركيين في المنطقة.
الظروف تختلف اليوم عن مرحلة 2020، خصوصاً بعد عملية طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية على غزة، ومشاركة الإيرانيين عبر حلفائهم وأذرعهم في الحرب، لا سيما في لبنان. وعلى الرغم من حشد الأساطيل الأميركية في المتوسط بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، إلا أن الإدارة الأميركية برأت طهران من أي دور لها في عملية حماس، بالتزامن مع مفاوضات غير مباشرة كانت تجري في سلطنة عُمان، وأيضاً عبر نافذة أوروبية، لكنها لم تصل إلى نتائج حول الملفات الخلافية، خصوصاً في الملف النووي. وعلى هذا لا تبدو إيران في صدد الرد على الأميركيين، لكنها سترد في شكل أو آخر على إسرائيل لحفظ هيبتها.
لكن الرد الإيراني المحتمل الذي تتحدث عنه طهران يطرح أسئلة عديدة، ومنها، هل تقرر الجمهورية الإسلامية تغيير استراتيجيتها بتوسيع دائرة الحرب؟ وإذا كانت الجبهة المحتملة هي لبنان، هل تدفع “حزب الله” إلى المغامرة بإشعالها في ظل الاستعدادات الإسرائيلية لحرب واسعة على لبنان تهدف إلى إبعاد الحزب عن المنطقة الحدودية؟ الأهم من ذلك، تدرك إيران أن أميركا ستكون إلى جانب إسرائيل في أي حرب في المنطقة، ومعركة غزة حاضرة كشاهد مع استمرار الولايات المتحدة بمنح إسرائيل السلاح والذخائر رغم الخلاف بين جو بايدن وبنيامين نتنياهو، فإذا توسعت الحرب بين إسرائيل و”حزب الله” فلن تكون واشنطن على الحياد بل ستدعم إسرائيل، وهذه الأخيرة تسعى إلى استدراج إيران و”حزب الله” إلى الحرب عبر الضربات الكبيرة والموجهة والضغط المستمر وهدفها جرّ الولايات المتحدة إلى مواجهة إقليمية لا تريدها لكنها ستكون مضطرة إذا نشبت لدعم تل أبيب.
وبعيداً من التفسيرات ذات الخلفية الأيديولوجية الدينية الإيرانية، فإن ما يحكم الرد الإيراني هو المصالح وحساباتها السياسية بالدرجة الأولى. فهي في الأساس تواجه من خلال أذرعها في المنطقة لحجز دور أساسي لها كقوة إقليمية تعترف الولايات المتحدة بها. وأيضاً تريد أن يكون لها كلمة في المفاوضات حول غزة والوضع الفلسطيني عامة. فإيران لم تواجه الأميركيين مباشرة في صراعها معهم باستثناء ردها بقصف قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق رداً على اغتيال سليماني، وهي كانت أفرغت مسبقاً من الجنود الأميركيين. ولذا كانت طهران حريصة منذ وصول جو بايدن إلى الرئاسة على التفاهم واستمرار المفاوضات حول الملف النووي وترتيبات المنطقة مع أميركا من دون أن تذهب إلى إشعال الصراع معها.
وهو ما يتناقض مع المقاربة التي أطلقها نصر الله حين قال “إن إيران حتى الآن ترفض أي لقاء مباشر مع الأميركيين، وهي لا تفاوض على الملفات الإقليمية معهم”، فيما الوقائع تؤكد سعي طهران من خلال مفاوضاتها السابقة غير المباشرة إلى عقد صفقات لصون مصالحها.
ويبقى الهدف الإيراني حماية مشروع النظام وعدم تعريضه للاهتزاز. وحتى الرد الإيراني المحتمل على ضربة دمشق لا يبدو أنه قرار بالذهاب إلى الحرب، وإن كانت المواجهة مشتعلة على جبهة لبنان أو في مناطق أخرى ومنها اليمن.
التصريحات الإيرانية وأبرزها للمرشد علي خامنئي الذي قال في تغريدة: “سنجعل الصهاينة يندمون على جريمتهم وعدوانهم الآثم على القنصلية الإيرانية في دمشق”، تشير إلى أن إيران عازمة على الرد لحفظ هيبة نظامها، ولكنها ليست بصدد إشعال حرب في المنطقة لا تريدها. وعلى هذا تعود جبهة جنوب لبنان إلى الواجهة مع الاستنفار الإسرائيلي على طول الحدود واستدعاء قوات احتياطية تحسباً لتطور الأوضاع الميدانية مع رد إيراني عبر “حزب الله”. واستعادة الهيبة أو الحفاظ عليها على الأقل ينطلق مما يعتبره الإيرانيون إنجازاً تحقق لمحورهم بعد طوفان الأقصى. لكن قوة طهران في المقابل تعرضت لضربات كبيرة عبر العمليات والاغتيالات ضد “حزب الله” وقادة إيرانيين في سوريا، ما يعني أن إسرائيل أرادت أن تعوّض خسائرها بإنهاء البنية العسكرية لفيلق القدس وقيادته وشل يد إيران في المنطقة، خصوصاً أن إسرائيل تضرب في العمق اللبناني وفي سوريا وتقول إنها قادرة على الوصول إلى أي نقطة، حيث جاءت الغارات على القنصلية الإيرانية في دمشق في هذا السياق، لكنها كانت قاسية على طهران باغتيال أبرز القيادات الإيرانية التي تدير العمليات ضد إسرائيل وفي المنطقة، وهي كانت شريكة لقاسم سليماني.
وفي انتظار ما ستؤول إليه التطورات، برد إيراني كبير أو محدود، تبقى جبهة الجنوب اللبناني مشتعلة، ويتزامن ذلك مع تحذيرات دولية من تصعيد العمليات وتحولها إلى حرب شاملة، في وقت تأخذ المواجهة بين “حزب الله” وإسرائيل أشكالاً مختلفة من التصعيد وخرق قواعد الاشتباك، وهي تشير إلى احتمال توسعها، إن كان لتحقق إسرائيل أهدافاً تقول إنها أساسية لطمأنة مستوطنيها في الشمال بإبعاد الخطر عنهم، أو أن يقول “حزب الله” إن معركته هي لحماية لبنان من أي هجوم إسرائيلي وللاستمرار في دعم غزة.
الخطر يبقى على لبنان من اشتعال حرب واسعة، قد تكون مرافقة لحرب رفح التي تريدها إسرائيل لتهجير الفلسطينيين، أو أن تكون لتحقيق أهداف منفصلة لضرب قوة “حزب الله”. وإذا جاء الرد الإيراني من جبهة لبنان، فمن المحتمل أن تقترب المعركة الشاملة وتفتح على حروب لا سابق لها.