إعادة بناء قطاع غزة المدمّر كلّيا يحتاج إلى المليارات من الدولارات، ربما تصل إلى 50 مليار دولار إذا توقفت الحرب الآن، بينما تحدث الرئيس السيسي عن تقديرات مصرية قد تصل إلى 90 مليار دولار. ويكون العمل على خطيين متوازيين: خط الإغاثة الإنسانية والمساعدة الفورية للناس بتوفير السكن الفوري المؤقت من خلال الخيام أو الكرفانات وتوفير الغذاء والماء الصالح للشرب والدواء وتشغيل المستشفيات. وهذا وحده يحتاج مبلغ فوري عاجل يصل إلى مليار دولار حسب تقديرات الأمم المتحدة.
أما الخط الثاني فهو إعادة البناء، وأول خطوة في إعادة البناء، بعد حصر وتقييم الأضرار في كافة القطاعات، تبدأ في إزالة مئات القنابل التي لم تنفجر التي ألقتها الطائرات الإسرائيلية حتى نتفادى مزيدا الانفجارات وقتل الأبرياء، ومن المتوقع أن تقوم بذلك مؤسسات الأمم المتحدة المتخصصة في إزالة القنابل والألغام كما حصل بعد انتهاء الحروب السابقة في غزة. ومن ثم تبدأ عملية إزالة الطمم الهائل الذي نتج عن حجم الهدم المخيف للعمارات والأبنية والمنازل والمدارس والجامعات والمستشفيات والجوامع.
وهذا سيتطلب آليات ضخمة غير موجودة حالياً في قطاع غزة، لذلك سنحتاج شركات مقاولات دولية وعربية ضخمة، لها خبرة بالتعامل مع هذه الأعمال الكبيرة.
ويحتاج قطاع غزة إلى تخطيط حضري من جديد وإعداد مخططات هيكلية جديدة وربما بناء مدن جديدة على أحدث المفاهيم التنموية العصرية وبناء ظهير عمراني وخدمي وتجاري. فلا نعيد بناء الأحياء المكدسة كما كانت وكذلك البنى التحتية. يجب تأسيس شبكات المياه الجديدة والصرف الصحي وحتى خطوط الاتصالات وخطوط الكهرباء تحت الأرض ومن ثم يتم تعبيد الشوارع والعمل فوق الأرض وبناء المساحات العامة والحدائق والإسكانات والمباني الحكومية والبلدية الحديثة.
وهذا سيتطلب وقتاً طويلاً وجهداً ضخماً وأموالا طائلة وفرق هندسية تعمل ليل نهار دون توقف. فهذا مشروع ضخم وقد يكون له هيئة مستقلة لإدارته بشكل فعّال وشفاف. وإن توفّر التمويل اللازم، فستتسابق شركات الاستشارات والمقاولات المصرية والعربية على الدخول في عطاءات إعادة الإعمار المربحة جدا.
كل هذا لا يمكن أن يبدأ قبل أن تتوقف الحرب العدوانية على قطاع غزة، وتنسحب الدبابات الإسرائيلية وينسحب آخر جندي إسرائيلي. فلا يمكن البناء أو حتى ضرب مسمار واحد بينما الحرب الدموية دائرة على الأرض. حيث سيكون أول طلب لأي شركة دولية للعمل في قطاع غزة هو وقف الحرب والاستقرار والأمن والأمان على موظفيها ومعداتها.
اليوم الوضع الفلسطيني ليس على ما يرام بسبب الانقسام السياسي الفصائلي، ولا يوجد جهة واحدة يتفاوض معها العالم على إعادة إعمار قطاع غزة المنكوب. وهذا يهدد كل عملية الإعمار ويهدد جلب التمويل لذلك. وقد تعلمنا درساً قاسيا من الوعود التمويلية التي لم تنفذ بعد الحروب السابقة على غزة حيث لم يأت دولار واحد من الستة مليارات دولار التي تعهد بها العالم لغزة بعد عدوان 2014 بسبب فشلنا في الحشد السياسي الدولي والعربي.
اليوم حماس وقوى المقاومة تفاوض إسرائيل بشكل غير مباشر من خلال قطر ومصر والولايات المتحدة، والسلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير تفاوض إسرائيل من خلال الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والدول العربية. حماس وقوى المقاومة تفاوض ليس فقط على إعادة الإعمار، بل أيضا على عدة أمور هامة بالنسبة لها مثل الإفراج عن عدد كبير من الأسرى، وفك الحصار الكامل عن قطاع غزة بعد انتهاء الحرب وأمور أخرى قد تتضمن رفع يد إسرائيل كلياً عن قطاع غزة وعن حركة سكانها بما يتضمن بناء ميناء ومطار جديد تحت إشراف الأمم المتحدة أو دول عربية وربما تفاوض حماس أيضاً ان استطاعت على إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس.
أما السلطة الوطنية الفلسطينية فهي تفاوض على إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس في إطار حلّ الدولتين على حدود 1967. وهذا يتضمن التفاوض على كل شيء تحت هذا العنوان وكل ما له علاقة بالفلسطينيين داخل وخارج فلسطين.
إنّ حركتي حماس والجهاد الإسلامي لا تعترفان بإسرائيل، ولا يقبلان أن يعملان تحت إطار حلّ الدولتين لأن هدفهما النهائي كما يعلنان هو تحرير كامل تراب فلسطين من النهر إلى البحر. ولكنهما يقبلان الآن (مؤقتا) إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967.
والسلطة الوطنية الفلسطينية تعمل أيضاً على إقامة هذه الدولة الفلسطينية ولكن كما أعلنت كحل دائم مع الإسرائيليين. هذا يعني أن جميع الفصائل الفلسطينية (بما فيهم فتح وحماس) يقبلون الآن بحل إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967.
وهذا ما يؤيده القوى العظمى في العالم، على الأقل كما يصرحون يومياً هذه الأيام، بما فيهم الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين والأمم المتحدة أيضاً. بينما الجهة الوحيدة التي ترفض إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس هي إسرائيل وقادتها المجرمون الذي يريدون كل فلسطين من النهر إلى البحر كحل نهائي ولا يريدون أي شكل من السيادة للفلسطينيين على أي شبر من فلسطين.
فهل يستغل الفلسطينيون اليوم بكل فصائلهم (بما فيهم فتح وحماس) هذا التوجه الدولي لإقامة دولة فلسطينية من أجل الضغط على إسرائيل وقيادتها العنصرية المتطرفة لإنهاء احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وإقامة دولة مستقلة تكون القدس الشرقية عاصمتها فعلاً وليس قولاً فقط.
هي إذن الوحدة الوطنية والتوحد خلف هدف واحد معلن وصريح وقيادة واحدة واستراتيجية واحدة، التي قد تساعد الفلسطينيين هذه الأيام من الإفلات من بطش وجبروت وغطرسة الاحتلال الذي لم يرحم غزة، ولن يرحم أيضاً الضفة والقدس بعد الانتهاء من غزة والقضاء عليها إن استطاع. هي الوحدة الوطنية التي قد تنقذ ما تبقى من الأرض ومن القضية وترحم الشعب الفلسطيني الذي لم يعد يحتمل مزيداً من القتل والتهجير وعذابات لها أول وليس لها آخر.