هجوم موسكو.. و«داعش» صنيعة الاستخبارات
روسيا تريد توريط أوكرانيا ومن خلفها الدول الغربية الداعمة لها، فهذا متفهمٌ جداً وهو إحدى أدوات الصراع السياسي المعروفة، ولكنّه لا ينفي مسؤولية «داعش» والإرهابيين عن العملية، بل إن الرئيس الروسي بوتين صرّح بنفسه بأن من قام بالعملية هم «متشددون إسلاميون».
الأمن الروسي أعلن قبل يومين، الجمعة، عن اعتقال ثلاثة مواطنين من إحدى دول آسيا الوسطى كانوا يخططون لشنّ هجومٍ بقنبلة في جنوب روسيا، وهو ما يعيد للأذهان الجريمة الإرهابية التي حدثت في موسكو قبل أسبوعٍ، حين هاجم أربعة مسلحين إرهابيين قاعة «كروكوس سيتي هول»، ما خلّف 143 قتيلاً وعشرات الجرحى.
كان الجدل ساخناً قبل أسبوعٍ واحدٍ فقط، وركز البعض على البعد الاستخباراتي في العمل الإرهابي، وسعى البعض لتبرئة تنظيم «داعش» من العملية ورميها شرقاً وغرباً، وفي سخونة الحدث كان كاتب هذه السطور ضيفاً على برنامج «ساعة حرةً» على شاشة قناة العربية، وقد أكد مسؤولية تنظيم «داعش خراسان» عن العملية لأسباب واضحةٍ حينها، أهمها ثلاثة: الأول أن التنظيم أعلن مسؤوليته عن العملية عبر «وكالة أعماق» التابعة له، وقد ظل الإعلام العربي والعالمي لعقدين من الزمن يأخذ بيانات هذه التنظيمات على محمل الجدّ، وأثبتت هذه التنظيمات أنها غالباً لا تكذب في تبنيها للعمليات الإرهابية. والثاني، أكد التنظيم ذلك بالفيديوهات التي نشرها قبل وسائل الإعلام العالمية. والثالث أن أسلوب «النحر» لدى الإرهابيين يكاد يكون ماركةً إرهابيةً مسجلةً باسم «داعش».
كان هذا قبل أسبوع، وقد أكد «داعش» ذلك في العدد الأخير من مجلته الأسبوعية «النبأ» الذي نشر الجمعة، عبر تطبيق «تلغرام»، وأن الهجوم نفذه «أربعة انغماسيين من جنود الخلافة»، بحسب هذه الصحيفة نقلاً عن وكالة «الصحافة الفرنسية»، وهي لغة «داعش» ومفرداته التي لا تخطئها العين.
فعملياً وواقعياً لم تعد مسؤولية «داعش» عن الحدث موضع تساؤلٍ أو شكٍ، لكن المهم أنه منذ حدوث الهجوم الإرهابي، أمكن رصد «استراتيجية التشتيت» التي انطلقت تجاه الحدث، وهي استراتيجية تتبعها جماعات الإسلام السياسي ومؤيدوهم من «مطايا الإخوان» لتشتيت التفسير المنطقي والمباشر للأحداث الإرهابية، واستراتيجية التشتيت تفتح الباب على مصراعيه للتيه الفكري والسياسي، عبر السماح للتفكير التآمري، أو ما يسميه البعض «نظرية المؤامرة» بالتفشي، وهو تفسير يشوّش على الوعي ويلغي المسؤولية ويخفف النقد عن هذه الجماعات وتنظيماتها وخطاباتها وآيديولوجيتها أثناء سخونة الحدث.
تحدث البعض عن أن «داعش خراسان» ما هو إلا «صنيعة استخبارات» أميركية وبريطانية، وأن روسيا تريد توريط أوكرانيا والدول الغربية الداعمة لها في الحدث، وهذا كلامٌ يحتاج إلى فرزٍ وتمحيص، لأن خلط الأوراق يُعشي العيون عن رؤية الحقائق والتعامل معها.
هل لجماعات الإسلام السياسي علاقة بالدول الغربية؟ وهل استخدمتها الدول الغربية لضرب الدول العربية والإسلامية؟ والجواب سهلٌ ميسورٌ، وهو بالإثبات، فنعم، الإرهاب الإسلامي الحديث في الأساس صناعة بريطانية، مع حسن البنا وجماعة «الإخوان المسلمين»، والخميني جاء من فرنسا ليقود «الثورة الإسلامية»، و«الجهاد الأفغاني» برمته كان جزءاً صغيراً من الحرب العالمية الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي.
وقد خرجت من سنوات الحرب الأفغانية عشرات الجماعات والتنظيمات الإرهابية ممن يعرفون بـ«الأفغان العرب»، ومن أشهرها جماعات العنف الديني بالجزائر في التسعينات، وفي مصر، ومن بعد تنظيم «القاعدة» بفروعه. ولكن السؤال هنا: إذا كانت لهذه الجماعات علاقاتٌ بالدول الغربية، فهل هذا يلغي أن العقيدة والآيديولوجيا والفكر الذي خرجت منه هذه الجماعات هو فوق النقد أو بعيد عن التجريم والإدانة؟ هل نترك التعامل معه واستهدافه للدول والشعوب المسلمة ونوجه سهام النقد لسياسات الدول الغربية؟ أي منطقٍ هذا؟
والركون إلى أن تنظيمات الإرهاب وجماعات الإسلام السياسي مجرد «صنيعة استخبارات» شذوذ في الفكر، فلماذا استهدفت هذه الجماعات الدول الغربية ومصالحها لسنواتٍ طوالٍ؟ ولماذا نفذ تنظيم «القاعدة» عمليته الإرهابية الأخطر في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) ضد أميركا؟ وأي جوابٍ لا يعترف بخطر الإرهاب الإسلامي فهو ينتمي لعبقرية «تيري ميسان» الذي يرى أن أميركا فجّرت نفسها ذلك اليوم.
أما أن روسيا تريد توريط أوكرانيا ومن خلفها الدول الغربية الداعمة لها، فهذا متفهمٌ جداً وهو إحدى أدوات الصراع السياسي المعروفة، ولكنّه لا ينفي مسؤولية «داعش» والإرهابيين عن العملية، بل إن الرئيس الروسي بوتين صرّح بنفسه بأن من قام بالعملية هم «متشددون إسلاميون»، لذا «قطعت جهيزة قول كل خطيب».
لدى هذه الجماعات ثأرٌ قديمٌ ضد الاتحاد السوفياتي ووريثته روسيا، منذ الحرب في أفغانستان بالثمانينات، ومن بعدها طاجيكستان وداغستان والشيشان والبوسنة في التسعينات، وصولاً إلى سوريا ما بعد 2011 وإلى اليوم، ومن ينسى الإرهابي المعروف «خطاب»، وعملياته ضد الروس والإرهابي الشيشاني «شامل باسييف» وأمثالهما فيما مضى.
الرئيس الفرنسي قال إن «داعش خراسان» حاول ارتكاب عدة عمليات إرهابية بفرنسا في الفترة الأخيرة، وقال رئيس وزرائه إن «باريس رفعت تحذيرها من الإرهاب إلى أعلى مستوياته»، وأميركا من جهتها حذرت روسيا من عملية موسكو قبل شهرٍ، وصحيفة «نيويورك تايمز» أكدت أن هذا التنظيم وبعد هجماتٍ في أفغانستان وباكستان وإيران سيهاجم أوروبا، وهجمات التنظيم التي أحبطت في أوروبا وروسيا وغيرها وتحذيرات الساسة الغربيين، كل ذلك يؤكد خطر هذا التنظيم ونشاطه، وقد هرب بالأمس فقط 12 من قيادات «داعش» من سجن عفرين بسوريا الذي تشرف عليه قوات تركية.
تنظيم «القاعدة» في اليمن بدأ هو الآخر بالتحرك والخطب الحاشدة في مأرب والتغيير في القيادات، والكل بدأ يستعيد نشاطه بعد الانسحاب الأميركي الذي شابه الهروب من أفغانستان والذي بدأ يؤتي ثماره الأصولية، وقد شابهه الانسحاب الروسي من تلك المناطق بعد حرب أوكرانيا.
احتمال انتقال هذا التهديد الإرهابي الجديد للدول العربية مؤشرٌ خطيرٌ، وأجهزة الأمن متيقظة له، ولكن المشكلة تكمن في التقصير الإعلامي الذي يسعى للتعمية على عمليات الإرهاب وتهديداته اقتناعاً بمقولة «نهاية الإرهاب».
أخيراً، فمنذ سنواتٍ وبعض الكتاب والباحثين والمتخصصين يؤكدون أن موضوع «جماعات الإسلام السياسي» لم يعد موضوعاً دينياً فحسب، بل هو موضوعٌ سياسيٌ بالدرجة الأولى، ونقصٌ خطيرٌ في وعي أي مسؤول أو محللٍ سياسي حين لا يدرك ذلك، ونقصٌ أخطرٌ في الوعي الاقتصاد على التفسير السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي للإرهاب دون الأصل والمركز وهي الفكر والآيديولوجيا، ثم تأتي هذه التفسيرات الأخرى لتشكل إضافة مهمة.