كنت كغيري من العرب الذين يعيشون في إسرائيل أرفض تسمية “عرب إسرائيل”، وأقدم نفسي كفلسطيني أو من عرب 48، وتصل بي الجرأة أن أجاهر بهكذا مسميات في المحافل والرأي العام الإسرائيلي، على عكس غيري من الذين ينافقون بتسمياتهم؛ في زيارات الدول العربية ومدن الضفة، يركز على فلسطينيته، وفي إسرائيل وخاصة الدوائر الحكومية وأهمها الخدماتية، لا يكتفي بتسمية “عربي إسرائيلي” بل يقزم التسمية إلى الطائفية.
هكذا كنا جميعنا، وكانت ألسنتنا لم تتوقف عن توجيه الشتائم للحكومة وانتقاد سياساتها مستغلين هامش حريةٍ زائفاً منحته لنا سياسة الدولة العميقة التي لم تُحاسبنا على كلامنا، بل وشجعتنا بطرق مختلفة على إطلاق العنان لإلسنتنا ضد سياسات الحكومات، وأفردت لنا المساحات في وسائل الإعلام الإسرائيلية للتعبير عن الرأي لما لذلك من أهمية لإظهار إسرائيل كدولة ديمقراطية تفسح المجال لكافة مواطنيها على اختلاف دياناتهم وقومياتهم لقول كلمتهم، حتى لو كانت توجه أقسى العبارات للحكومة وسياساتها.
وكانت لجنة المتابعة شغلها الشاغل إعلان الإضرابات على كل صغيرة وكبيرة، وإقامة المظاهرات التي تتشقق فيها حناجر الخطباء الذين يكيلون الشتائم للحكومة ومن يقف على رأسها دون أن يحاسبهم أحد. وأعضاء كنيست إسرائيل العرب لم يتوقفوا عن الصراخ إلى درجة تحويل منبر الكنيست إلى مسرحيات هزلية وسخرية وألفاظ مؤلمة ضد زملائهم اليهود.
كنا نكذب على أنفسنا وعلى جمهورنا وعلى شعوبنا العربية، وخاصةً شعبنا الفلسطيني، إلى أن تم اكتشاف حقيقتنا بعد أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر). في ذلك اليوم، تنكرنا لكل شعاراتنا، وصممنا آذاننا وأغمضنا عيوننا وبدأنا نتنافس على إظهار الولاء لإسرائيل التي تقودها أكثر الحكومات عنصرية، ومنا من ذرف دموعه تعاطفاً، وأكثرنا وطنيةً سكت ولم يدلِ بتصريح، كلنا وبدون إرغام اخترنا تسمية لطالما تنكرنا لها، كلنا وأقول كلنا أثبتنا أننا “عرب إسرائيل”، لأن الذي يرفض هذه التسمية لم يصطف منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) إلى جانب طرف، بل أثبت بسكوته موافقته على ما تقوم به دولته التي يتمسك بهويتها وجوازها في حربها ضد غزة.
منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) لم أكتب مقالاً واحداً إلا اليوم، وتعطلت أقلام كافة زملائي من الذين اختاروا اليوم تسمية “عرب إسرائيل” عن كتابة المقالات “الجريئة” التي اكتشفنا اليوم أنها أقرب إلى الجُبن والنفاق، لأنها كُتبت في زمن الرخاء الذي لا نُحاسبُ عليه، واكتفينا باللجوء إلى التحليل وتبادل الأكاذيب، وجَبُنَت قيادات العرب في إسرائيل عن التصريحات، وتحول النائب العربي إلى عضو كنيست إسرائيلي أو صهيوني، وأقلعت لجنة المتابعة عن ذِكرِ إعلان الإضراب، بل وحَرَّمَت استخدام هذا النوع من الاحتجاجات، وفرضت على نفسِها القيود الذاتية.
هذا الصمت لن يدوم طويلاً، فبعد أن تضع الحرب أوزارها، وتنجح دولة “عرب إسرائيل” بدعم العالم كله تقريباً على إعادة نظام روابط القرى، وهذه المرة فقط في قطاع غزة، لأن الضفة روابطها متينة وقد تُشرفُ هي على غزة، فالسباق بدأ نحو الأموال التي ستُضخُ لإعادة إعمار غزة، عندها سنرى قادة عرب إسرائيل تنطلق ألسنتهم من على منابر الكنيست الإسرائيلي ولجنة المتابعة ومن مقاطعة رام الله التي تُعتبر وُجهتهم للتصريحات الوطنية الخاوية. سيعودون إلى حقيقتهم المزورة ويتنكرون مجدداً لتسمية “عرب إسرائيل”، وستُزلزِلُ منابر المساجد خطابات بعض الأئمةِ الذين كانوا يُعانونَ من بَحةٍ في حناجرهم وتعافوا منها اليوم، ستَصِلُ الجُرأةُ ببعض “الوطنيين” إلى المطالبة بمحاكمةِ إسرائيل دولياً.
وقد يستغل بعض أعضاء الكنيست العرب حصاناتهم لإبداعاتٍ جديدة تجعل الساذجين من الناخبين يجددون الولاء لهم ليعيشوا في مسرحيةٍ أخرى، وقد يُقدِمُ رئيس لجنة المتابعة على استغلال مناسبةٍ وطنيةٍ تبقيهِ على كرسيهِ الشبيه بكراسي العرب الذين نؤيد منهم من يمُدُنا بالمال ونُهاجم من يمنعه عنا. هكذا تحولنا إلى أبواق لتمرير أجندات، لكن بعض الأنظمة العربية لم تعد تحتاج أبواقنا، لأنها باتت أكثر قرباً منا إلى “دولتنا”.
فليعلم العالم أن قيادات العرب في إسرائيل أو بتعبيرٍ أدق معظمها، أثبتت اليوم بلا أدنى شك أنها عربيةٌ إسرائيليةٌ بامتياز، وأن موقف منظمة التحرير الفلسطينية برفض اللقاءات مع قيادات “راكاح” و”حداش” في مطلع السبعينيات باعتبارها إسرائيلية قد يتجدد، فراكاح وحداش، هما تسميتان صهيونيتان لأكبر الأحزاب العربية الإسرائيلية المتمثلة اليوم بالجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والحزب الشيوعي الإسرائيلي، وقد خسرا السطوة والغطرسة التي اعتادا عليها وسقطت معاقلهما في معظم القرى والمدن العربية، وكانت ضربتهما في مقتل تلك التي جرت في الناصرة بعد أن تهاوى عرشهما، لكنهما وبفضل دعم سلطة رام الله تمكنا من البقاء في رئاسة لجنة المتابعة دون إجراء انتخابات لها. والحركة الإسلامية التي تُعتبرُ امتداداً لحركة “الأخوان المسلمين” تعيشُ حالةً من الضياع بعد أن انشقت على نفسها، فالتزم جناحٌ منها الصمت بعد إخراجها من القانون توطئةً لتحجيمها، وانصهر جناحٌ في السياسة الإسرائيلية وبات قريباً منها كقرب الجبهة والحزب الشيوعي وقد سبقاها إلى ذلك بعقود. هكذا عززوا تسمية “عرب إسرائيل”.