في الوقت الذي تستبعد فيه مصادر في المعارضة السورية حدوث اختراق في ملف عقد الجولة التاسعة من اجتماعات اللجنة الدستورية السورية، بسبب مماطلة النظام وتعنته، كان لافتاً توقيت تسريب صحيفة مقرّبة من دوائر صنع القرار بدمشق، ما قالت إنه اقتراح “أممي” بعقد الجولة المُنتظرة للجنة، بالعاصمة السعودية، الرياض، بالتزامن مع تسريب آخر، للصحيفة ذاتها، يفيد باستئناف مسار التطبيع العربي مع النظام، من خلال الاتفاق على عقد الاجتماع المؤجّل –منذ أشهر- للجنة الاتصال العربية الخاصة بسوريا، في العاصمة العراقية، بغداد.
ففي منتصف الأسبوع الفائت، نقلت صحيفة “الوطن” عن مصدر دبلوماسي في دمشق –قالت إنه فضّل الكشف عن اسمه-، أن المبعوث الأممي الخاص بسوريا، غير بيدرسن، طرح خلال اجتماعاته بدمشق، مقترحاً بأن تكون الرياض مقراً لانعقاد اجتماعات اللجنة الدستورية السورية.
ومنذ تموز/يوليو 2022، تعطّل روسيا اجتماعات “الدستورية” في مدينة جنيف، بسبب انضمام سويسرا إلى العقوبات الأوروبية ضد روسيا، بعيد غزو أوكرانيا، في شباط/فبراير 2022. وقد تجاوب النظام مع الإرادة الروسية، ورفض منذ ذلك التاريخ، عقد الجولة التاسعة من اجتماعات اللجنة. وطُرحت خيارات بديلة لاستضافة الاجتماعات، كانت أبرزها، العاصمة العُمانية مسقط، وفق إعلان لجنة الاتصال العربية الخاصة بسوريا، في آب/أغسطس المنصرم. لكن هذا الخيار اصطدم برفضٍ من عُمان ذاتها، وفق ما نقلت صحيفة “العربي الجديد”، عن أحد أعضاء هيئة التفاوض السورية، في تشرين الأول/أكتوبر الفائت. إذ طلبت عُمان توافقاً كاملاً على أي مسار، كي لا تكون اجتماعات اللجنة عبثية، بغاية “التصدير الإعلامي”، فقط. لاحقاً، طرح بيدرسن خيار العاصمة الكينية، نيروبي، وهو ما رفضته موسكو، التي اقترحت بدورها، بغداد، وهو ما رفضته واشنطن.
طرحُ الرياض، كمقر لاجتماعات “الدستورية”، لَقِي ترحيباً من جانب المعارضة السورية. لكن لم يصدر حتى الآن أي تعليق رسمي بخصوص ذلك من جانب الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بهذا الملف، بما فيها السعودية. ولم يتم تأكيد وجود هذا الطرح، من جانب بيدرسن، نفسه. لكن، كان لافتاً، ذاك النشاط المحموم للمبعوث الأممي، خلال الأسبوع الأخير.
تسريب “الوطن” المشار إليه، سبقه بأيام، زيارة ملفتة لوزير خارجية النظام، فيصل المقداد، إلى الرياض ذاتها. التقى خلالها وزير الخارجية السعودي. وكانت فيما يبدو، محاولةً لاستئناف مسار التطبيع العربي المجمّد، منذ أشهر.
وبعد يومين، من التسريب الأول، سرّبت “الوطن” أن لجنة الاتصال العربية بشأن سوريا، ستعقد اجتماعها الثاني، في العاصمة العراقية بغداد، في أيار/مايو المقبل. مشيرةً إلى “تحضيرات جيدة” بشأن الاجتماع. وفي حال تحقق ذلك، سيوافق هذا الاجتماع، الذكرى السنوية الأولى لتشكيل لجنة الاتصال العربية بشأن سوريا، التي تم تشكيلها في أيار/مايو 2023، في اجتماع بالعاصمة الأردنية عمّان، لتضم كلاً من الأردن والسعودية والعراق ولبنان ومصر والنظام السوري والأمانة العامة لجامعة الدول العربية، بغية متابعة تنفيذ بيان عمّان المتعلّق باستمرار الحوار المباشر مع النظام السوري، للتوصل لحل سياسي شامل في البلاد. وكان هذا البيان، تمهيداً لاستضافة رأس النظام، بشار الأسد، في القمة العربية بالرياض، في أيار/مايو 2023. وشمل البيان يومها، ملفات تهريب المخدرات وإعادة اللاجئين، إلى جانب ملف الحل السياسي وفق القرار الدولي 2254. وهو القرار الذي تضمن، في أحد بنوده، كتابة دستور يتبعه إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية برعاية دولية. وبموجبه، بدأت أعمال اللجنة الدستورية السورية، برعاية الأمم المتحدة. وعُقدت 8 جولات للجنة، لم تفضِ إلى أي نتيجة تُذكر، على صعيد كتابة دستور جديد، منذ خريف العام 2019.
كانت لجنة الاتصال العربية بشأن سوريا قد عقدت اجتماعها الأول بالقاهرة، في آب/أغسطس المنصرم. وتم تحديد مكان انعقاد الاجتماع الثاني في بغداد، منذ ذلك الوقت. لكن اللجنة قررت تجميد اجتماعاتها مع حكومة النظام السوري، منذ أيلول/سبتمبر الفائت، وفق تسريب نشرته صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية، حينذاك، وأرجعت ذلك إلى أن النظام لم يقدّم التسهيلات الأمنية والسياسية المطلوبة لوقف تصدير المخدرات إلى دول الجوار، وامتنع عن التجاوب مع المتطلبات المؤدية للانتقال تدريجياً إلى مرحلة الدخول في الحل السياسي لإنهاء الحرب في سوريا.
ورغم نفي الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، حينذاك، صحة أنباء تجميد لجنة الاتصال العربية لاتصالاتها بالنظام السوري، إلا أن اجتماع اللجنة المرتقب في بغداد، لم يتم منذ ذلك التاريخ. إلى أن سرّبت “الوطن”، قبل أيام، أن الاجتماع سيتم في أيار/مايو القادم، بالتوازي مع مساعي المبعوث الأممي إلى سوريا، لجلب النظام إلى طاولة اجتماعات “الدستورية”، قبل نهاية نيسان/أبريل القادم.
وإن كان من المبكر الجزم بجدّية طرح خيار الرياض كمقرٍ لاجتماعات “الدستورية”، إلا أن تزامن هذا التسريب مع آخر متعلّق بإحياء اجتماعات لجنة الاتصال العربية، وصدور التسريبين عن صحيفة مقرّبة من النظام، يؤشر إلى وجود تحرّك ما على هذا الصعيد. وقد يكون النظام في وارد التخلي عن التعنت بخصوص مكان عقد اجتماعات “الدستورية” مقابل استئناف مسار التطبيع العربي المجمّد معه.
ورغم ضآلة قيمة هذا “التنازل” من جانب النظام، إلا أنه –إن أبصر النور على أرض الواقع- فسيمثّل أول اختراق للمسعى العربي لدفع النظام نحو الاستجابة لمطالب الدول العربية الرئيسية، التي رحبت بالتطبيع معه، بشروط، قبل نحو سنة. وكان أبرز تلك الشروط، التقدم تدريجياً نحو تنفيذ القرار الدولي 2254.
بطبيعة الحال، لن يكفي ذاك الاختراق –في حال تحققه- لخلق تحوّل نوعي في مسار المشهد السوري. إذ سيعمل النظام على إفراغ جولات المفاوضات بخصوص الدستور، من أي مضمون، كما فعل في الجولات الثماني السابقة، التي استمرت سنتين ونصف تقريباً. لكن تنازل النظام عن ورقة “مكان الاجتماع”، يؤشر إلى حاجة النظام الملحة للحصول على مكاسب من “التطبيع” العربي معه، على الصعيد الاقتصادي. وهذا ما يمثّله الثقل السعودي، بهذا الصدد، تحديداً. مما يعني أن هذا الاختراق قد يكون الأول. وأن “خطوة” استئناف اجتماعات “الدستورية”، قد تكون مقابل “خطوة” استئناف مسار “التطبيع”، لتحقيق مبدأ “خطوة مقابل خطوة”، الذي أُسِّسَ مسار “التطبيع” العربي، بالاستناد إليه.