سيكون الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، قد حقق مكسبا غير مسبوق للجزائر كدولة، ولشخصه كرئيس للجمهورية، إذا أرسى قواعد الشفافية على أكبر الاستحقاقات الانتخابية في البلاد، قياسا بما اقترنت به من لغط وشكوك، أوصلتها في بعض المحطات إلى درجة الأزمة، بدل أن تكون حلا لما يمكن أن يستجد من أزمات أو اختلالات.
انتخابات الرئاسة المقررة في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر القادم، هي واحدة من الاستحقاقات الرئاسية التي شهدتها البلاد منذ استقلالها في صيف عام 1962، إلى غاية عام 2019، وبعيدا عن الانتخابات التي كان يؤطرها الحزب الواحد، فإن مواعيد حقبة التعددية شهدت بعض التجارب استحضرت من طرف متابعين ومهتمين عندما أعلن الرئيس تبون، عن تقديم الموعد من نهاية العام إلى شهر سبتمبر.
يتذكر الجزائريون، حالة الاستقطاب الحاد في انتخابات عام 2004 و2014، بين الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، وبين رئيس الحكومة السابق وأمين عام حزب الأغلبية جبهة التحرير الوطني حينها علي بن فليس، خاصة أن المسألة آنذاك تعقدت لدرجة التدويل، حيث اشتكى الأول من الثاني لوزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري، بينما اقترح القائد الليبي الراحل معمر القذافي وساطة بين المرشحين.
وقبلها كان الرئيس السابق اليامين زروال، قد قرر تحت تأثير تجاذبات في هرم السلطة في نهاية تسعينات القرن الماضي، تنظيم انتخابات رئاسية مسبقة دون الترشح لها، ولم يكمل الرجل عهدته الوحيدة، وهي الانتخابات التي انتظمت في 1999، وعرفت انسحاب ستة مرشحين منافسين لمرشح السلطة حينها الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة.
وأفضى اللبس الذي أحاط بالمواعيد المذكورة، إلى إفراز لغط، وشكوك كبيرة حول نزاهتها وشفافيتها، كما طفت بسببها مخاوف لدى الجزائريين من كون المواعيد الديمقراطية تجري أو تؤدي إلى أزمات سياسية، ولذلك قفز عامل المفاجأة والإثارة إلى الواجهة بعد قرار تبون تقديم موعدها، خاصة وأنه لم يقدم الأسباب والدواعي ساعة اتخاذه، الأمر الذي أثار اهتمام الداخل والخارج استنادا إلى التجارب سالفة الذكر.
ويبدو أن الرئيس تبون، يريد من خلال هذه الخطوة القطع مع عهد الغموض واللبس، والحرص على معيار الشفافية، بحسب ما أوردته وكالة الأنباء الرسمية، في برقيتها التي شرحت أسباب ودواعي القرار، والتأكيد للرأي العام الداخلي والخارجي أن الاستحقاق لن يكون نتيجة أو رد فعل على أوضاع أو إكراهات خارج إرادة المؤسسات، كما حدث مع انتخابات عام 2019، التي جاءت في ظروف ميزها عدم الاستقرار والاحتجاجات الشعبية على النظام السياسي القائم.
الرئيس تبون، سيكون صاحب سبق وفضل على الجزائر والجزائريين، إذا أخرج الانتخابات الرئاسية من التجاذبات غير الطبيعية التي لازمتها في العديد من المحطات، لكن معيار الشفافية المنشود، لن يتحقق في ظل قنوات خطاب لازمها الفشل في تسويق رسائل السلطة بكل سلاسة وليونة.
ما أوردته الوكالة الرسمية، التي سبق لها منذ نحو أسبوعين أن أكدت أن “الانتخابات الرئاسية ستجري في موعدها الدستوري”، بما يعني الشهر الأخير من عمر الولاية الرئاسية، فتح هو الآخر المجال أمام التأويلات والتكهنات بدل توضيح ماهية القرار في جمل قصيرة وبسيطة.
كان بالإمكان الاكتفاء بما أسمته “المغزى الثالث”، الذي تحدثت فيه عن خطوة استباقية لترتيب أوراق المؤسسة الأولى في البلاد، في ظل التوترات الإقليمية المتصاعدة في المنطقة، وإمكانية الانزلاق في أي لحظة، مما يستدعي ضبط جميع الأوتار والموازين، خاصة وأن المسألة تتعلق بالمؤسسة الرسمية الأولى في البلاد.
وهو ما قالت بشأنه “من دون أدنى شك في الحسابات الجيوسياسية، فقمة الغاز الأخيرة وتسيير النزاعات والتحولات الجيوستراتيجية والأمنية في المنطقة، قد أنضجت بالفعل هذه الفكرة. وانطلاقا من هذا الإعلان تلعب الجزائر دورا ليس بالهين سيمكنها من رسم معالمها المستقبلية في مواجهة كل أشكال الكولونيالية الجديدة. إن التهديدات الخارجية حقيقية وملموسة، بما يجعل من تقليص العهدة الأولى ضرورة تكتيكية، حيث أنه استباق لاضطرابات مبرمجة، فالرهان الدولي يسبق الرهان الوطني. وعليه، يتعين على الجزائر أن تعزز وحدتها وانسجامها الداخليين، برئيس وجيش ومؤسسات بجاهزية لمواجهة الأزمات الخارجية، والتي هي بالفعل على أبوابنا مستهدفة سيادتنا وأمننا”.
كان بالإمكان أن يكون هذا الطرح لوحده مقنعا وكافيا لشرح وتبرير القرار، فالدولة مستقلة وسيدة نفسها، وللقيادة السياسية السلطة التقديرية لتقييم الأوضاع واتخاذ القرارات والتدابير اللازمة، خاصة في ظل الرمال المتحركة بسرعة في غالبية الحدود، ودخول أطراف معلنة وخفية على خط نية تجريدها من دورها التقليدي والطبيعي في المنطقة.
إن استناد البرقية على حرص الرئيس على معيار الشفافية، والعودة إلى الإطار الزمني العادي للاستحقاق الرئاسي، بعدما تم الاستعجال به في الانتخابات السابقة، لا يستقيم مع فصل الصيف وشهور القيظ ولا مع الدخول الاجتماعي.
وأول استفسار تجاهلته الوكالة الرسمية، هو كيفية إدارة حملة انتخابية في شهر أغسطس، وكيف يستقطب الجزائري الذي يكون حينها بين إجازة سنوية أو التحضير لعودته لمنصب عمله أو الاستعداد لدخول أبنائه للمدارس والجامعات، وكيف يمكن إقناعه بالانخراط بالمشاركة السياسية، خاصة وأن الهوة المتراكمة عميقة، ويكفيها مثلا رفع دينار في سعر قلم حبر أو كراس، لتنفر صاحبه من الاستحقاق برمته.
لا يمكن لقناة رسمية تعمل على تسويق خطاب السلطة في أي بلد، وتأتي بالشيء ونقيضه في آن واحد، أن تتحدث عن معيار الشفافية الذي يحذوه الرئيس تبون، في تنظيم الانتخابات الرئاسية، وعن “العلبة السوداء الرئاسية” في البرقية نفسها، فذلك محفز على إثارة الغموض بدل إضفاء الشفافية.