في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي سعت “قمة فيلولي” التي عقدت في سان فرانسيسكو وجمعت الرئيسين الأميركي جو بايدن والصيني شي جينبينغ وما رافقها من رسائل ود وتلميحات لإعادة العلاقات بين أكبر دولتين في العالم إلى مسار عقلاني بعيداً من التصعيد، وتعظيم أهمية استيعاب الجانبين لحاجة بعضهما إلى الآخر، وأنه يمكنهما تعلم مفردات التعايش السلمي، حتى وإن كان في مناخات من التنافسية العالمية الشديدة. ومن أجل ذلك برزت بعد القمة رؤى حول الحاجة إلى منصة تنظم الحوار الدائم بينهما، وربما التوافق مستقبلاً على مساحات نفوذ مستقرة، حتى لا تنزلق الأمور إلى شفير الهاوية.
وفي المقال الذي كتبته في نوفمبر الماضي حول العلاقات الأميركية – الصينية خلصت إلى أن “قمة فيلولي” لا تخرج عن إطار التهدئة، وأن مخرجاتها ذات صلاحية محدودة لن تتجاوز العام نظراً إلى قرب الانتخابات الرئاسية واحتمالات عودة الرئيس السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، ما يرشح دخول هذه العلاقات في مناخات من التصعيد والتوتر، ويعمق مسألة إعادة تموضع للتحالفات والعلاقات الدولية وفق مبدأ à la carte، أي الانتقاء بحسب الطلب كما جاء في نتائج استفتاء المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية وجامعة أكسفورد الذي أجري على هامش القمة الأميركية – الصينية.
وهذا بعينه ما يحدث اليوم، إذ صار بمقدور الدول المزج والتوفيق بين تحالفاتها الاستراتيجية بين الصين وأميركا، وعدم التزام مفهوم التحالف الاستراتيجي أحادي الجانب بالمطلق، وهناك مؤشرات تتزايد وضوحاً لبروز شراكات ترتقي إلى مستوى الشراكات الاستراتيجية مع بكين بين دول كانت وما زالت حليفة استراتيجية لواشنطن، بطريقة باتت معها الصين تتوسع في زوايا وجوانب لم تكن لتفكر فيها في أوج إمساك أميركا بناصية النظام العالمي عقب الحرب الباردة.
وبعد “قمة فيلولي” دخلت أميركا في تعقيدات متعددة أبرزها حرب إسرائيل في غزة وحرب أوكرانيا والحرب التي تستعر داخلياً في مناخات الانتخابات الرئاسية، فيما انطلقت الصين بكامل قوتها لتعمق بصمتها العالمية كقوة عظمى في أرجاء المعمورة. حتى مشروع الرئيس بايدن المعروف بالممر الاقتصادي الرابط بين الهند وأوروبا عبر الجزيرة العربية الذي كان يرجى منه مواجهة مشروع الصين المعروف بمبادرة الحزام والطريق لم يعد سالكاً مع غياب فرص السلام الإقليمي، فيما صارت المبادرة الصينية شرياناً أخطبوطياً من الأحزمة والطرقات التي تنتشر بين بلدان آسيا في البر والبحر، وصولاً إلى أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا تنتج شراكات وأتباع لبكين هنا وهناك.
توسع بدائل الصين التجارية
في وقت يشكو فيه العالم من انخفاض يتجاوز الـ50 في المئة من حجم التجارة الدولية المنقولة عبر البحر الأحمر بفعل ما يصنعه إرهاب الحوثي والجهود الحثيثة التي تقوم بها إيران عبر عملائها في اليمن لزيادة توريط أميركا والدول الغربية في مستنقع البحر الأحمر، وفيما تؤكد كل المؤشرات أن عمليات الحوثي مرشحة للتوسع النوعي، وصولاً لفرض اتاوات تصاعدية حتى إعاقة فاعلية الممر التجاري الدولي، وأنها لن تتوقف مع توقف عدوان إسرائيل على غزة، بل هناك بعض التقارير التي تلمح إلى أن ما يجري هو فعل منسق لتدمير الممرات المائية التي كانت وما زالت سبباً في القوة الاقتصادية الأميركية العالمية.
فعلى رغم التوافقات المعلنة التي أجرتها الصين مع الحوثيين لضمان مرور سفن شحنها التجارية في البحر الأحمر، فإنها تتحرك بصورة حثيثة على طول وعرض القارة الآسيوية لمواصلة مشروعها الاستراتيجي للإجهاز على القوة الاقتصادية الأميركية، عبر إنشاء الطرق التجارية البرية في ضوء رؤيتها لمبادرة الحزام والطريق التي انطلقت قبل عقد وما زالت تشهد تحديثات متواصلة لتطوير مسارات للنقل الدولي عبر البحر الأسود، من قبل دول آسيا الوسطى، وطريق التجارة شرق – غرب اليورو – آسيوي، وسكة حديد سيبيريا المعروفة بالممر الشمالي، إضافة إلى الممر الجنوبي عبر المحيط الهندي.
وأخيراً، بدا واضحاً تزايد التأثير الصيني على الدول الآسيوية عموماً، وتحديداً تلك الواقعة ضمن مناطق النفوذ الروسي، مستغلة ضعف روسيا استراتيجياً وانشغالها في أوكرانيا. فإضافة إلى التأثير المتزايد على دول مثل أفغانستان وبنغلاديش وكمبوديا وميانمار وتايلاند، والتي كانت ترتبط بشراكات متعددة، وآخرها فيتنام التي اعتبرتها أميركا شريكاً استراتيجياً في العام الماضي، وباكستان التي تعد حليفاً تقليدياً لأميركا، بدأت الصين بالتوسع باتجاه مناطق النفوذ الروسي في آسيا الوسطى. وفي نوفمبر الماضي ناقشت مع كل من إيران وكازاخستان وتركيا وتركمانستان وأوزبكستان جهود تسريع تطوير المسار الثاني للنقل في الممر الأوسط بين تركمانستان وأوزبكستان، مما سيودي إلى إيجاد ربط بري مباشر بين الصين وحليفتها الاستراتيجية إيران.
وسيشكل المشروع الجديد شرياناً اقتصادياً منقذاً لإيران من العقوبات الغربية ويلغي أثرها في نظام الملالي، وسيزيد من تأثير النفوذ الصيني في دول الاتحاد السوفياتي السابقة في آسيا الوسطى وعزلها عن موسكو. وكما هو معلوم فإن تجارة إيران تعتمد بأكثر من 85 في المئة على النقل البحري، وهذه الجهود الصينية للربط البري مع طهران تشكل جزءاً من الشراكة الاستراتيجية الإيرانية – الصينية التي توصل إليها في عام 2016، والممتدة لـ25 عاماً. وسيكون الخط الرابط بين الصين وطهران مشغولاً في الاتجاهين، فمن ناحية الصين سينقل الصناعات الصينية إلى مساحات واسعة بين آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، ومن الناحية الأخرى سيزود الصين بكل حاجاتها من المواد الخام والطاقة من أفريقيا والشرق الأوسط.
إن الاستراتيجية التي تتطلع إليها الصين عبر إيران تتمثل في تحويل طهران لقوة إقليمية للنقل التجاري ورافد للنفوذ الصيني في النظام الاقتصادي العالمي الجديد الذي تتطلع لقيادته.
الصين والغياب الأميركي
إن التهديد الصيني لأميركا كقوة عالمية يتجاوز فرضية “التعايش السلمي” في بيئة من التنافسية الشديدة وتقسيم المصالح بلا ضرر ولا ضرار. وهناك قناعة متزايدة تتمخض عن النقاشات المكثفة لصناع السياسات والأكاديميين وأصحاب الرأي بأن النمو الاقتصادي المتسارع للصين وتوسيع بصمتها الاقتصادية العالمية من خلال مبادرات على شاكلة الحزام والطريق، يتحدى الهيمنة الاقتصادية التي تتمتع بها أميركا تاريخياً، وأن صعود الصين في مجالات التصنيع والتكنولوجيا والتجارة جعلها منافساً شرساً لأميركا في الأسواق العالمية، فيما يرى خبراء اقتصاديون أن أميركا شهدت بفعل نظريات العولمة التي تبنتها تراجع قطاع التصنيع وتحول سلاسل التوريد إلى الصين.
كما أن المنافسة التكنولوجية الصينية تتسع يوماً بعد يوم، بموازاة جهودها للتحديث العسكري، مما زاد من استعراضها للقوة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فيما يحاول الخطاب الدبلوماسي الصيني إيجاد صوت جماعي عالمي ضد النظام العالمي الذي تقوده أميركا، مقدماً نهجاً جديداً يقوم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وعدم الاكتراث لحقوق الإنسان ولا بالديمقراطية، بما في ذلك عدم الترويج للفكر الشيوعي الذي يقود الصين.
ويبقى التحدي أمام السعي الصيني لدفن النظام العالمي الذي تقوده أميركا منذ نهاية الحرب الباردة، بما وفره من مناخات بناءة للتقدم والنماء في جميع دول العالم، وأفضى إلى بروز الصين كقوة عالمية، أن أميركا ما زالت تواصل الحفاظ على قوة اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية ودبلوماسية وازنة في وقت تواصل فيه ريادتها للابتكار واحتفاظ اقتصادها بديناميكية مثيرة للإعجاب، ولكنها مع الأسف تجر إلى مستنقعات صراعات وأزمات خارجية وداخلية يراد منها تقريب نهاية العصر الأميركي وانفضاض الشركاء التقليديين عنها. فهل يدرك صانع القرار الأميركي، ديمقراطياً كان أم جمهورياً، خطورة الأمر؟