تمّ تنصيب فون غيثنغ (50 عاماً) المحامي الأسود البشرة، وزيراً أول في ويلز، في الوقت الذي لا تزال فيه لندن والحزب البريطاني الحاكم يترنحان بسبب هجوم عنصري شنّه عضو بارز فيه على دايان أبوت، أول نائبة بريطانية سوداء.
واللافت أنّ العنصرية المتفاقمة في المملكة المتحدة مع رواج الشعبوية والكراهية المتزايدة ضدّ المسلمين واليهود، لم تمنع اختيار زعيم ثالث غير أبيض لأحد مكوناتها الأربعة، يُضاف إلى رئيس الوزراء ريشي سوناك والوزير الأول في اسكتلندا حمزة يوسف.
وغيثنغ من حزب العمال الذي اختار أنس سروة المسلم زعيماً لفرعه الأسكتلندي، كما قدّم للندن عمدتها صادق خان أيضاً. وانتخابه يمثّل سابقة في أوروبا وخارجها، إذ إنّه أول رئيس حكومة أسود في القارة، ولعلّه الأول في العالم الذي لا يعرف لغة بلاده!.
وقد يبدو غريباً أنّ لونه لم يُعق تسلّمه زعامة الحزب الرئيسي في أصغر أجزاء المملكة (3 ملايين نسمة) وأشدّها فقراً، وهو الذي يفتخر بأصوله، مؤكّداً أنّه “ويلزي من زامبيا”. والواقع أنّ كونه ينتمي إلى أقلية لم يكن له علاقة كما يبدو بانتخابه. ربما يعود ذلك في جانب منه إلى أنّه ثمرة زواج مختلط بين طبيب من ويلز ومربية دجاج من زامبيا، ولد في لوساكا وأتى إلى بريطانيا وعمره سنتان. لكن الناخبين العماليين لم يتحفظوا على كون منافسه جيرمي مايلز ينتمي إلى أقلية من نوع آخر، فهو مثلي. لذا لا بدّ أنّ انفتاح الحزب الحاكم في ويلز منذ صارت قادرة على تسيير شؤونها المحلية في 1999، هو سبب مهمّ في انتخابه.
ولم يكن طريق النجاح خالياً من الألغام. فهو فاز بفارق ضئيل، إذ نال 51،7 في المئة من الأصوات، بينما حصل مايلز على 48،3 في المئة، ما يعني أنّ ثمة عدداً غير قليل من نواب حزبه لم يصوّتوا له.
وقيل إنّ البعض امتنع عن دعمه لأنّه أقرب إلى جناح اليمين في حزب العمال من غالبية أعضائه في ويلز المخلصين لمبادئه اليسارية التقليدية. إلاّ أنّ تصنيفه على هذا النحو ينطوي على شيء من التسرّع، قبل معاينة أسلوبه في القيادة بعد مباشرته مهامه الجديدة، فهو كان براغماتياً أكثر منه أي شيء آخر. وتردّد أنّه اعتمد على دعم النقابات الذي كان شرطاً حاسماً للفوز بمنصب ما في أيام حزب العمال القديم. وفي الوقت نفسه، قبل على طريقة “العمال الجديد” اليميني تبرّعاً غير قليل لحملته الانتخابية من رجل أعمال تمّت إدانته بارتكاب مخالفات بيئية مهمّة.
هذه “الازدواجية” لن تكون بلا تداعيات سلبية. وإذ يُنتظر أنّه سيتعاون مع ستارمر بشكل أفضل لكونه أقرب إلى خطه، لا يستبعد أن تتعقّد علاقاته مع حزب “بلايد كامري” القومي حليف العمال، قبل نهاية “اتفاقية التعاون” بينهما أواخر العام الجاري، إذ أعرب القوميون عن عدم ارتياحهم لكيفية حصول الوزير الأول على هذا المنصب.
والأهم هو توحيد أجنحة العمال في ويلز وكسب تأييد أولئك الذين لم يباركوا انتخابه في أقرب وقت لبدء الاستعداد للانتخابات البرلمانية المحلية في 2026. وربما كان رصّ الصفوف المنشود يساعد حزبه في ترميم صورته التي ألحق بها انتخاب زعيمه بعض الأذى، بين الناخبين الويلزيين عموماً. ومعروف أنّ أسهم “بلايد كامري” ارتفعت بشكل ملحوظ ونال أصواتاً أكثر بكثير مما كان متوقعاً في الانتخابات التي تلت تنصيب آلان مايكل في 1999 كأول رئيس حكومة محلية عمالي، بطرق اعتبرها أبناء البلاد غير نظيفة وقرّروا معاقبة المسؤولين عنها.
لن يكون من السهل تجاوز هذه العقبات كلها، مع أنّ تخطّيها ليس مستحيلاً، على الرغم من وجود العديد من القضايا المتأزمّة التي تنتظر منه جواباً. فإذا وضعنا الخلافات الحزبية والجدال الدائر حول انتخابه، هناك مشكلة تكلفة المعيشة المتأججة، كما تشكو الخدمات العامة من تضاؤل وضعف متزايد من حيث النوعية، لا سيما في مجالي الصحة والتعليم. وهو مسؤول إلى حدّ ما عن هذا التراجع، خصوصاً أنّه دخل الحكومة المحلية في 2013 وكان وزيراً للصحة قبل تسلّمه حقيبة الاقتصاد التي ظلّت معه حتى انتخابه قائداً جديداً قبل أيام. لذا سيحتاج المرء إلى قدر كبير من التفاؤل لكي يشعر أنّ بوسعه التصدّي لهذه الأزمات بشكل فعّال.
ولا بدّ من أنّ أنصار التعددية في المملكة المتحدة يعلّقون الكثير من الآمال على نجاحه في التعامل مع هموم أبناء ويلز لكي يصوّتوا للعمال بقيادته مرّة جديدة في انتخابات البرلمان المحلي بعد عامين. ففي ذلك الحين، من المرجح أن يكون الزعيم الوحيد غير الأبيض المتبقي في “دول” المملكة المتحدة.
الأغلب أنّ عهد سوناك سينتهي هذه السنة، فيما لا يُستبعد أن يكون يوسف خارج السلطة بعد انتخابات البرلمان الأسكتلندي في 2026. وإن لم يستطع قائد العمال الإسكتلندي أنس سروة أن يحلّ محله وخرج غيثنغ من الحكم في ويلز، لصارت قيادات المملكة المتحدة “بيضاء” كلها.
وسيلعب غيثنغ دوراً مهمّاً في مستقبل الحزب في المملكة المتحدة. ويلز بلد كان دوماً عمالي الهوى. ويُتوقع ألاّ يصوت في الانتخابات العامة المقبلة لأي من نوابه المحافظين الحاليين. مع ذلك، فإنّ أداء الوزير الأول في الأشهر القليلة التي تفصلنا عن الانتخابات قد يعزز هذا الولاء التاريخي ويساعد في إسدال الستار على 14 عاماً من حكم المحافظين، أو يقلّل من احتمالات ذلك. بيد أنّ دوره الأخطر يتمثل في مدى قدرته على المساهمة في تصويب توجّه العمال بعد الانتخابات التي يتوقع أن تحمل كير ستارمر إلى داونينغ ستريت. فالأخير معروف بتخبّطه، وخوضه معارك داخلية، ليس فقط مع أنصار فلسطين ومع اليساريين، بل أيضاً مع العمدة خان، ونظرائه آندي بورنهام (مانشستر) وستيف روثرام (ليفربول) وجايمي دريزكول (نيوكاسل) الذي صار مستقلاً بسبب خلاف حاد مع ستارمر لأسباب واهية. لذا سيكون موقف غيثنغ، المؤيّد أو المعارض، للزعيم الذي يريد الإيحاء بأنّه “حديدي” الإرادة والإدارة، مؤثراً فيه.
في المقابل، إذا تحققت التكهنات وتسلّم ستارمر السلطة، فكم سيساعد غيثنغ في مقارعة أزمات ويلز التي يعود تفاقمها إلى “تقتير” حكومات المحافظين المتعاقبة عليها، كما زعم القادة العماليون هناك دوماً. لكن الوزير الأول لن يستطيع أن يقول الشي نفسه بعد الانتخابات العامة المقبلة، إذا لم يكن زعيمه في لندن سخياً بالشكل الكافي، كما هو متوقع. وعندها سيكون غيثنغ بين مطرقة ستارمر وسندان ويلز وتصبح إعادة انتخابه موضع شك.