احتفالات، وأجواء من البهجة والسعادة تسيطر على الحاضرين في العاصمة الكينية نيروبي يوم السبت، 22 الشهر الماضي (فبراير/ شباط). لكنّ الحدث ليس كينياً، والمبتهجين ليسوا كلّهم كينيين، كينيا مجرّد الحاضنة، أمّا المحتفلون فأغلبهم سودانيون، والاحتفالات وأجواء البهجة ليست لأن الحضور اتفقوا على إنهاء الحرب العبثية التدميرية التي تدخل عامها الثالث في إبريل/ نيسان المقبل، لكنّهم يحتفلون بترسيخ مخطّطات تقسيم السودان لصالح أجندات خارجية دولية، بأدوات إقليمية ومحلّية.
ليست كينيا الفاعل الرئيس في المشهد، وليست صانعته، لكنّها كانت الواجهة له، والمنصّة التي ينطلق منها، مع وجود أطراف دولية وإقليمية لها الدور الأكبر في مقدّمتها الولايات المتحدة وبريطانيا، وثالثتهم الإمارات (وفق بيانات رسمية سودانية)، مع وجود أطرافٍ أخرى مؤثّرة، لكنّها تأتي في مرتبتين، ثانية وثالثة، حسب طبيعة الأدوار والمهام التي يمكن أن تقوم بها في مخطّطات تفكيك السودان، ومنها بعض دول الجوار السوداني، التي تشكّل أدواتٍ وظيفيةً في هذه المخطّطات، ولا تملك من أمرها شيئاً، لأن بقاء الحكّام في هذه الدول على عروشهم مرتبط بمدى نجاحهم في أداء ما يُؤمرون به.
الإعلان من نيروبي توقيع ما عرف “الميثاق التأسيسي” والسعي نحو تأسيس حكومة موازية للمعارضة السياسية والمليشيات المسلّحة ليس كغيره من فِكَر حكومات المنفى، التي يكون هدف كثير منها حماية الدولة من الانهيار والتفكيك في ظلّ فساد واستبداد النظم القائمة، وليس الهدف تفكيك الدولة، تحت شعاراتٍ عبثية من “الدولة اللامركزية”، لأن مجرّد الحديث عن اللامركزة والكونفيدرالية في مراحل الأزمات السياسية والصراعات المسلّحة هو بداية ترسيخ التقسيم، وما الصومال أو لبنان أو العراق أو اليمن، أو حتى سورية وليبيا، منا ببعيد.
من شأن محاولة تأسيس حكومة بديلة في ظلّ هشاشة الدولة السودانية في المرحلة الراهنة، التي لا تحتمل الصراع بين “مركز” و”أطراف”، تغذية طموحات الساعين إلى التفكيك سواء في دارفور أو كردفان أو النوبة، فالخطر ليس من مجرّد الإعلان الذي لا يجب التقليل من مضمونه وتوقيته ومكانه وأطرافه، وإنما يتمثّل في منح بعض الأطراف التي وقّعته “شرعيةً” تستطيع من خلالها أن تتحرّك خارجياً وتحصل على اعتراف من بعض الأطراف، وتستطيع التفاوض على الحصول على دعم مادّي وتسليح عسكري، بل ليس من المُستبعَد أن تمارس أطرافٌ دوليةٌ وإقليميةٌ الضغوط على بعض النظم السياسية في المنطقة للاعتراف بهذا الكيان المصطنع، بما يتوافق مع ما تسعى إلى تحقيقه من أهداف.
لذا، لا يجب التعاطي مع فكرة هذا الكيان أنه من وسائل الضغط على الجيش السوداني للقبول بالتفاوض في هذه المرحلة، ثم يختفي الكيان مع بدء التفاوض وتحقيق اختراق سياسي لصالح الأطراف المُوقِّعة، فالخبرة السودانية مع مثل هذه الكيانات ليست سلبية فقط، لكنّها كارثية، وما حدث من قبل في 2011، مع انفصال جنوب البلاد عن شماله، ليس خافياً على كثيرين من متابعي المشهد السوداني والمهتمّين به، وهو ما يفرض على الحريصين على وحدة السودان وأمنه وسلامته التعاطي مع هذه الخطوة بعدّها “خنجراً مسموماً” يجب القضاء عليه ميدانياً، سياسياً وعسكرياً، قبل انتشار تأثير سمومه في مكوّنات أخرى من الجسد السوداني المُنهَك. دليل ذلك هذه الخريطة المُعقّدة من الأطراف والملفّات المرتبطة بالمشهد السوداني، ففي وقتٍ استطاع فيه الجيش تحقيق نجاحات عسكرية مهمّة ومؤثّرة خلال الشهرين الأخيرَين، واستطاع استعادة مساحاتٍ واسعةٍ في الخرطوم ودارفور وكردفان، وشرقي البلاد ووسطها، تأتي العقوبات الأميركية ضدّ قادة الجيش السوداني بعد أن سبقتها عقوبات ضدّ مليشيا “الدعم السريع”، وسط اتهاماتٍ بارتكاب انتهاكات ضدّ المدنيين، والمساواة بين ما يقوم به الجيش وما تقوم به هذه المليشيا، التي تضمّ بين صفوفها آلافاً من المرتزقة من دول أجنبية.
ليس التنافس الدولي على السودان خافياً على أحد، فهو صراع ممتدّ منذ قرون، وتصاعدت حدّته بعد استقلال السودان وانفصاله عن مصر عام 1956، وتفاقم حتى وصل إلى تقسيم البلاد بين قسمَين عام 2011، واستمرّ بأدوات جديدة بعد 2011، وأصبح الهدف تقسيم ما تبقّى من البلاد وتدمير ثرواته ومقدّراته، وصولاً إلى 15 إبريل/ نيسان 2023، مع التمرّد العسكري الذي قادته مليشيا “الدعم السريع”، المدعومة دولياً وإقليمياً، وسط صمت وتجاهل ونسيان لحجم الكارثة التي تشهدها البلاد مع تشريد وتجويع أكثر من نصف السكّان، وسقوط مئات آلاف بين قتيل وجريح. لكن، مع تغيّرات الأوضاع في الأرض، وما مع ما حقّقه الجيش من انتصارات، وما تعرّضت له المليشيات من انكسارات، بدأ تحريك أدوات عديدة، كان آخرها (ولن يكون الأخير) الكيان الوليد تحت مسمّى “ميثاق تأسيسي” و”حكومة موازية”.
ليس تحريك هذه الأدوات وسيلةً للضغط وخلط الأوراق بعيداً من الحضور الروسي في المشهد السوداني، الذي كان له دور مهمّ ومؤثّر في انتصارات الجيش أخيراً، إذ جاءت زيارة وزير الخارجيّة السوداني علي يوسف إلى موسكو، وإعلان توقيع اتفاقية لإقامة القاعدة البحرية الروسية على السواحل السودانية عند البحر الأحمر في مؤتمر صحافي للوزير مع نظيره الروسي سيرغي لافروف. يفيد مسؤولون سودانيون بأن هذه القاعدة التي يجرى الحديث عنها منذ 2017، وقبل سقوط الرئيس السوداني السابق عمر البشير، ستكون قادرةً على استقبال سفن حربية تعمل بالطاقة النووية، واستيعاب ما يصل إلى 300 فرد بين عسكريين ومدنيين، كما يمكنها استقبال أربع سفن حربية في وقت واحد لأغراض الإصلاح والإمداد، ما يجعلها نقطةَ ارتكاز استراتيجية للقوات الروسية في المنطقة، وأنها يمكن أن تساهم في تطوير سلاح البحرية السوداني، الذي يحتاج جهوداً كبيرة لتعزيز قدراته، وإحياء النقل البحري التجاري للسودان.
ويقارن السودانيون بين ردّي الفعل الروسي والفعل السوداني، ويرون أن موسكو، عندما وافق السودان على المقترح الروسي، لم تتردّد في إرسال وفد عسكري كبير بقيادة نائب وزير الدفاع، تلته زيارة دبلوماسية رفيعة المستوى للوزير لافروف. في المقابل، مارست واشنطن ضغوطاً سياسية ومالية، وهدّدت بفرض مزيد من العقوبات، وعندما تحدثّت عن مساعدات ووعدت بتزويد السودان بطائرات إف 16، قدّمت بدلاً منها طائرات قديمة من طراز آخر، بينما قدّمت روسيا أحدث طائراتها للسودان، ما ساهم في تغيير المعادلات الميدانية على الأرض لصالح الجيش السوداني في مواجهة “الدعم السريع”. إلى جانب الدعم السياسي من روسيا في الأمم المتحدة، واستخدامها حقّ النقض (فيتو) ضدّ قراراتٍ عديدة كانت تستهدف الجيش السوداني، وتسعى إلى فرض عقوبات على قياداته العسكرية.
في المقابل، شاركت الولايات المتحدة مع بريطانيا في صياغة ما عرف بـ”الاتفاق الإطاري”، الذي سعى إلى تمكين قوى سياسية محدّدة تُعتبر حليفاً محتملاً لمصالحها، استبعدت قوىً أخرى فاعلة، واستهدفت تقويض الجيش تحت مزاعم إعادة هيكلته، بينما لم تتّخذ أيَّ خطوات حقيقية لإعادة هيكلة قوات الدعم السريع، أو دمجها في الجيش ضمن إطار الدولة السودانية ومؤسّساتها. كما تحرص الولايات المتحدة وبريطانيا على الإبقاء على قنوات اتصال مفتوحة مع “الدعم السريع”، لضمان استمرار نفوذهما في أيّ تسوية سياسية مستقبلية، وورقة من أوراق الضغط والتأثير في مواجهة باقي الأطراف السياسية الفاعلة في المشهد السوداني، في ظلّ المخاوف الغربية عامّة، والأميركية خاصّة، من عودة الإسلاميين إلى السلطة في البلاد.
وهنا يبقى الرهان، أولاً على وعي السودانيين بحجم التحدّيات التي تستهدف دولتهم ووحدة أراضيهم، وثانياً على قدرتهم على تجاوز الانقسامات وتوحيد الجهود والقدرات في مواجهة ما يُدبّر لهم من سياسات ومخطّطات.