في آب/ أغسطس 2022 زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجزائر، ووقع مع نظيره عبد المجيد تبون وثيقة «إعلان الجزائر» وبدا الطريق حينها مفتوحا لعودة هادئة ومتدرّجة للعلاقات بين البلدين، لكن ما حصل بعدها أثبت العكس.
يبدو أن باريس كانت تتوقع أن تحظى، بعد تلك الزيارة المشهودة، بأفضلية سياسية واقتصادية لفرنسا مع الجزائر. تباطأت سلطات باريس في تنفيذ بعض الاتفاقات (استرداد أرشيف وخرائط التفجيرات النووية وجماجم المقاومين) وتوجّهت الجزائر للشراكة مع دول كالصين وروسيا وتركيا، ألغيت زيارة تبون التي كانت مبرمجة في بداية 2023، ثم تأجلت إلى الشهر الخامس منه، لكن تبون قام بدلا من ذلك بزيارة موسكو!
تراكمت حوادث عديدة إثر ذلك وكان أهمّها، على ما يظهر، اعتراف باريس بالمخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء الغربية، والذي ردت عليه الجزائر بسحب سفيرها لدى فرنسا (وما يزال).
كان لافتا، في هذا السياق المتعرّج للأحداث أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، علّق أمس الجمعة، على قضية اعتقال الكاتب الجزائري ـ الفرنسي بوعلام صنصال، وندد بـ«الاحتجاز التعسفي» معتبرا قضيته «من العوامل التي ينبغي تسويتها لإعادة بناء الثقة بالكامل» بين البلدين. قد لا يكون هذا التصريح غريبا، لكن توقيته الذي جرى في مؤتمر صحافي خلال زيارة دولة للرئيس الفرنسي إلى البرتغال، يشير، عمليا، إلى دخول ماكرون، شخصيا، على خطّ التوتّر العالي المتأزم في العلاقات مع الجزائر.
قبل ذلك بيومين أعلن رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا بايرو، عن فرض «قيود على حركة ودخول الأراضي الفرنسية» لحاملي وثائق سفر خاصة (دبلوماسية) وطلب بعدها من الجزائر مراجعة الاتفاقات بين البلدين، وعلى رأسها اتفاقية الهجرة، وهي نص قانون ينظم تنقل وإقامة الجزائريين في فرنسا، محددا مهلة زمنية قصيرة للقيام بذلك، وهو ما ردّت عليه الخارجية الجزائرية بقوة معلنة رفضها «القاطع مخاطبتها بالمهل والإنذارات والتهديدات».
سبقت ذلك عدة حوادث بين الطرفين، مثل استدعاء السفير الفرنسي في الجزائر، بعد شنّ السلطات الفرنسية حملة اعتقالات لعدد من المؤثرين على مواقع التواصل الذين يؤيدون سياسات الجزائر، واعتقال الجزائر للكاتب المذكور آنفا بعد تصريحات قال فيها إن أجزاء من الجزائر كانت تابعة للمغرب، وحدّ الجزائر من الواردات الفرنسية، وتأجج الحملات الإعلامية والسياسية الفرنسية ضدها (وبالعكس).
تستخدم فرنسا في معركتها مع الجزائر قضايا الهجرة وما يتعلّق بها من قضايا سفر ودخول الجزائريين وإقاماتهم، وفي الوقت الذي تندد فيه بقضايا الاحتجاز التعسفي، وحريات التعبير والسفر لكتاب وناشطين معارضين، مثل صنصال وبوراوي، فإنها تقوم بالتضييق على سفر ودخول وتأشيرات جزائريين آخرين، وبمطاردة المؤثرين الذين يدافعون عن سياسات الجزائر، وبإلغاء فعاليات (مثل منع إقامة تجمع للجالية الجزائرية عام 2024).
من جهتها، بدأت الجزائر بخطوات ثقافية واقتصادية وتجارية، فأخذت بتقليل وجود اللغة الفرنسية في البرامج والمقررات والإدارات والمؤسسات، ووجهت الموردين الجزائريين إلى أسواق أخرى، واستهدفت النفوذ الفرنسي في الاقتصاد الجزائري فقلصت حصة الشركات الفرنسية في السوق الجزائري، فتراجعت قيمة الصادرات الفرنسية للجزائر من 3,2 مليارات دولار أمريكي عام 2023 إلى أقل من 600 مليون دولار في عام 2024.
تشير هذه المعطيات الى وجود اتجاه سياسي قوي في فرنسا يعارض القطع مع الإرث الاستعماريّ القديم، ويُحاول الحصول على معاملة تمييزية تستند إلى هذا الإرث، ويقابل هذا اتجاه قويّ أيضا في الجزائر يشدّد على سيادة البلاد، ومراجعة الإرث الاستعماري، وحل إشكالاته.
لا تقتصر هذه المعركة بين إرادة «المعاملة التمييزية» كما ترغب باريس، وضرورة تصفية الإرث الاستعماري، كما ترغب الجزائر، على العلاقة بين البلدين، فعدد الفرنسيين من أصل جزائري يقدّر بـ6 ملايين مواطن، وهم أيضا في قلب هذه المعركة، التي يخوضها اليمين المتطرّف وأجزاء وازنة من اليمين، ضدهم، داخل فرنسا نفسها.
يُحيل هذا إلى التشابك الهائل بين تاريخي البلدين، ويُحيل أيضا إلى الصعوبة الكبيرة للقطيعة بين البلدين، وإلى أن المعركة ليست بين الجزائر وفرنسا فحسب، بل معركة داخل فرنسا والجزائر أيضا.
القدس العربي