يمثل الإرهاب في الساحل الأفريقي تحدياً أمنياً معقداً، فقد تحولت المنطقة إلى ساحة صراع بين التنظيمات الإرهابية والقوات الحكومية، في ظل غياب الاستقرار السياسي وضعف القدرات الأمنية. ومنذ انهيار نظام القذافي في ليبيا عام 2011، شهدت المنطقة تدفقاً للأسلحة والمقاتلين، ممّا عزز من نشاط الجماعات المتطرفة. ومع تزايد الهجمات الإرهابية وتوسع رقعة سيطرة هذه التنظيمات، بات الساحل الأفريقي نموذجاً لحالة الفوضى الأمنية التي تتغذى على هشاشة الدول والصراعات الداخلية.
قبل أيام نجحت السلطات المغربية في تفكيك خلية إرهابية، كانت مشروعاً استراتيجياً لما يُسمّى “ولاية داعش بالساحل”، بحسب مسؤولين تحدثوا للصحافة المحلية.
وقال حبوب الشرقاوي مدير المكتب المركزي للأبحاث القضائية المختص بقضايا الإرهاب والجرائم الكبرى بالمغرب في مؤتمر صحفي بمقر المكتب في مدينة سلا: إنّ الأبحاث الأمنية الأولية تفيد بأنّ “أعضاء هذه الخلية الإرهابية كان لهم ارتباط وثيق بكوادر من لجنة العمليات الخارجية في فرع الدولة الإسلامية بالساحل، والذي كان يقوده المدعو أبو الوليد الصحراوي (الذي لقي حتفه)”.
في ضوء ذلك نستعرض خريطة الجماعات الإرهابية في الساحل الأفريقي، والعمليات الأخيرة التي نفذتها، والتحديات التي تواجه جهود مكافحتها، إلى جانب استعراض السيناريوهات المستقبلية المحتملة لتطور الأوضاع في المنطقة.
خريطة التنظيمات الإرهابية في الساحل الأفريقي
تُعدّ المنطقة موطناً لعدد من التنظيمات الإرهابية الأكثر نشاطاً في أفريقيا، أبرزها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التي تنتمي لتنظيم القاعدة، وتعمل في مالي وبوركينا فاسو والنيجر مستهدفة القوات الحكومية والمدنيين. كما ينشط تنظيم داعش في الصحراء الكبرى، وينفذ هجماته في مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
وفي نيجيريا، تبرز جماعة بوكو حرام، إلى جانب تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا (ISWAP)، الذي انشق عنها وأصبح أكثر ارتباطاً بتنظيم داعش، حيث يوسع عملياته إلى تشاد والكاميرون والنيجر.
وتعتمد هذه التنظيمات على استغلال المناطق الحدودية المفتوحة، وهو ما يتيح لها حرية الحركة وتنفيذ هجمات عبر الحدود. كما أنّها تستفيد من الشبكات المحلية التي توفر التمويل والإمدادات، سواء عبر التهريب أو الابتزاز أو السيطرة على الموارد الطبيعية مثل مناجم الذهب غير الشرعية.
ماكرون وإفريقيا… ماذا تغيَّر في خطاب ثنائية التابع والمتبوع؟
تصاعد العمليات الإرهابية في الساحل الأفريقي
شهدت المنطقة في الأعوام الأخيرة تصاعداً ملحوظاً في الهجمات الإرهابية، مستهدفة مواقع عسكرية ومدنية على حد سواء. في النيجر أدى هجوم على قاعدة عسكرية في كانون الثاني (يناير) 2024 إلى مقتل العشرات من الجنود، في واحدة من أكثر العمليات دموية التي نفذها تنظيم داعش في الصحراء الكبرى. أمّا في مالي، فقد تزايدت الهجمات ضد القوات الحكومية وقوات حفظ السلام، حيث اعتمدت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين على التفجيرات الانتحارية وعمليات الكر والفر لاستنزاف الجيش المالي.
وفي بوركينا فاسو تصاعدت الهجمات الإرهابية في المناطق الشمالية والشرقية، حيث قُتل مئات المدنيين في هجمات على قرى بأكملها، وهو ما أدى إلى موجات نزوح جماعي. كما نفذت التنظيمات الإرهابية عمليات اختطاف تستهدف مسؤولين حكوميين وعمال إغاثة وأجانب، في محاولة للحصول على فدى مالية أو فرض مطالب سياسية.
تحديات مكافحة الإرهاب في الساحل الأفريقي
تواجه جهود مكافحة الإرهاب في الساحل الأفريقي عدة عقبات رئيسية؛ أبرزها ضعف القدرات العسكرية للدول المعنية، حيث تعاني الجيوش الوطنية من نقص في المعدات والتدريب، ممّا يجعلها عاجزة عن مواجهة التنظيمات الإرهابية التي تطورت تكتيكياً وتسليحياً. كما أنّ غياب التنسيق الأمني بين الدول يساهم في تمدد هذه الجماعات التي تستغل الحدود المفتوحة لشن هجمات وتنظيم عمليات تهريب الأسلحة والمقاتلين.
إلى جانب ذلك، تمثل العوامل الاجتماعية والاقتصادية بيئة خصبة لنمو الإرهاب، إذ تعاني دول الساحل من معدلات فقر وبطالة مرتفعة، وهو ما يدفع بعض الشباب إلى الانضمام للجماعات الإرهابية إمّا بدافع الحاجة المادية وإمّا بسبب الشعور بالتهميش. كما أنّ غياب الحكم الرشيد والفساد في بعض المؤسسات الحكومية يضعف ثقة السكان في الدولة، ممّا يسهل على التنظيمات الإرهابية تقديم نفسها كبديل يوفر الأمن والعدالة.
على الصعيد الدولي، ورغم وجود قوات أجنبية مثل “مجموعة فاغنر الروسية” وقوات فرنسية سابقة، إلا أنّ انسحاب فرنسا من مالي عام 2022 أدى إلى فراغ أمني استغلته الجماعات الإرهابية لتوسيع عملياتها. كما أنّ اعتماد بعض الدول على ميليشيات محلية لمحاربة الإرهاب أدى أحياناً إلى انتهاكات حقوقية، ممّا ساهم في تأجيج التوترات الداخلية.
السيناريوهات المستقبلية للإرهاب في الساحل الأفريقي
في ظل الوضع الحالي يمكن تصور عدة سيناريوهات لمستقبل الإرهاب في الساحل الأفريقي، وفق مراقبين. السيناريو الأوّل يتمثل في تصاعد نفوذ الجماعات الإرهابية، حيث قد تستفيد من استمرار عدم الاستقرار السياسي والانقلابات العسكرية المتكررة في دول مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ممّا يعزز قدرتها على التجنيد والتوسع.
السيناريو الثاني يقوم على تعزيز التعاون الأمني الإقليمي والدولي، من خلال تكثيف جهود مكافحة الإرهاب عبر قوات مشتركة ودعم أوروبي وأمريكي أكثر فاعلية، ممّا قد يساهم في تقليص نفوذ التنظيمات الإرهابية. السيناريو الثالث يتضمن تزايد التدخلات الخارجية، فقد تتجه الدول الكبرى إلى نشر قوات عسكرية جديدة أو تقديم دعم مباشر لحكومات المنطقة، لكنّ هذا قد يؤدي إلى ردود فعل عكسية تزيد من عداء السكان المحليين للقوات الأجنبية.
ويرى محللون أمنيون أنّ الحل الأكثر استدامة لمكافحة الإرهاب في الساحل لا يكمن فقط في العمليات العسكرية، بل يتطلب أيضاً استراتيجيات تنموية تهدف إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتعزيز الحكم الرشيد، وقطع مصادر تمويل الجماعات الإرهابية.
يظل الإرهاب في الساحل الأفريقي تهديداً رئيسياً لاستقرار المنطقة، حيث تواجه الحكومات تحديات أمنية وسياسية واقتصادية تعرقل جهود مكافحته. ورغم المحاولات الإقليمية والدولية لاحتواء هذه الظاهرة، إلا أنّ استمرار العوامل المغذية للإرهاب يجعل القضاء عليه مهمة طويلة الأمد. ومع تطور أساليب الجماعات الإرهابية، ستظل المنطقة بحاجة إلى حلول شاملة تجمع بين التدخل العسكري، وتعزيز الحكم الرشيد، والاستثمار في التنمية المستدامة، لضمان استقرار حقيقي في الساحل الأفريقي.