تُعقَد الانتخابات التشريعية الألمانية المبكرة في 23 فبراير (شباط) الجاري، وكان من المفترض أن تعقد في 28 سبتمبر (أيلول) 2025، لكن انهيار “ائتلاف إشارة مرور” المكون من أحزاب “الاشتراكي الديمقراطي”، و”الديمقراطي الحر” (الليبرالي)، و”الخضر”، عجل بها، على أثر إقالة المستشار أولف شولتز وزير ماليته “كريستين ليندنر” المنتمي إلى “الديمقراطي الحر” في 6 نوفمبر (تشرين الثاني)؛ نتيجة اختلاف الرؤي بشأن الإصلاحات المالية، خاصة قضية “كبح الديون”؛ ومن ثم خرج وزير المالية وحزبه من الائتلاف، ودُعِيَ إلى التصويت على سحب الثقة من الحكومة الألمانية في 16 ديسمبر (كانون الأول)، ومن ثم دُعِيَ إلى الانتخابات المبكرة التي وافق عليها الرئيس الألماني عقب خسارة شولتز الثقة.
توقيت حرج وبيئة مضطربة
تعقد الانتخابات الألمانية التشريعية المبكرة في ظل أجواء مضطربة محليًّا ودوليًّا، فالاقتصاد الأول أوروبيًّا ينكمش للعام الثاني على التوالي، والحليف الفرنسي يمر منذ عام -وأكثر- بعدم استقرار سياسي، وتولي ترمب سدة الحكم في الولايات المتحدة وما يتبعه من احتمالات حروب تجارية ومطالبات برفع الانفاق العسكري بنسبة تصل إلى 5% من الناتج المحلى الإجمالي، إلى ما ذلك من عوامل تؤثر في البيئة الانتخابية، يمكن تناولها كما يلي:
- حصار الشعبوية: يتنافس على مقاعد البوندستاغ الألماني أحزاب “الاتحاد المسيحي” (الديمقراطي-والاجتماعي في بافاريا فقط)، و”الاشتراكي” (يسار الوسط)، و”الديمقراطي الحر” (الليبرالي)، و”الخضر” (يسار مهتم بالبيئة). في مقابل هذه الأحزاب توجد ثلاثة أحزاب أخري يمكن اعتبارها شعبوية (بشقيها اليميني واليساري المتطرف) وهى حزب “اليسار” (دي لينكه)، وتحالف “سارة فاغنكنيشت” (منشق عن دي لينكه اليساري)، وحزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف. تمنح استطلاعات الرأي الأحزاب الشعبوية قرابة 30 % من مقاعد البوندستاغ المحتملة، في ظل وجود حزب “البديل من أجل ألمانيا” في المرتبة الثانية بنسبة تتخطى 20% في بعض الاستطلاعات، مع توقع تخطي حزبي اليسار (دي لينكه + تحالف سارة فاغنكنيشت) عتبة البرلمان بـ 5% لكل منهما. تعد هذه الانتخابات الأولى منذ انهيار سور برلين والشيوعية عام 1990، التي تحظى فيها ثلاثة أحزاب شعبوية متعاطفة مع روسيا وضد الاتحاد الأوروبي بهذا التقدم في استطلاعات الرأي، واحتمال حصدها ثلث مقاعد البوندستاغ، وهو ما يعد عائقًا ثقيلًا أمام الحكومة القادمة، التي يفترض أنها تشكل من الأحزاب الوسطية الموالية لأوروبا.
- حالة الاقتصاد: أعلن المكتب الإحصائي الاتحادي في ألمانيا، في 15 يناير (كانون الثاني) 2025[1]، عدة مؤشرات اقتصادية، عبرت في مجملها عن انكماش الاقتصاد الألماني للعام الثاني على التوالي، منها انخفاض الناتج المحلى الإجمالي لعام 2024 بنسبة 2%، كما ارتفع العجز المالي بنسبة 2.6%، بما يقدر بنحو 5.5 مليار يورو، ليصبح العجز نحو 113.041 مليار يورو، فيما انخفضت الصادرات للسلع والخدمات بنسبة 8%، مع انخفاض في قطاعي البناء والتصنيع بنسب 3.8% و3% على الترتيب. فضلًا عن ذلك، ارتفع معدل البطالة من 5.7 % في عام 2023 ليصبح 6% في عام 2024، مع توقع زيادته إلى 6.4% خلال العام الحالي.
- عودة ترامب: يحمل برنامج الرئيس ترمب الانتخابي عدة تحديات من شأنها أن تؤثر سلبًا في دول الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسهم ألمانيا، التي عانت خلال فترته الرئاسية الأولى تهديدات وتواترت، ما بين مطالبات برفع الإنفاق العسكري لبرلين إلى 2% من الناتج القومي الإجمالي، وحاليًا يرغب في زيادتها إلى 5%، وتحفظ على عجز الميزان التجاري للولايات المتحدة لصالح الصادرات الألمانية، فضلًا عن تهديده بسحب القوات الأمريكية الموجودة في ألمانيا. إضافة إلى ما سبق، سعى ترمب إلى فرض رسوم جمركية على الصادرات الأوروبية للولايات المتحدة، في سياق الحروب التجارية التي يدشنها ترمب تجاه اقتصادات دول كبرى، من بينها حلفاؤه. وبحسب تقديرات أجراها معهد الاقتصاد الألماني، فإن الحروب التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد تكلف اقتصاد ألمانيا نحو 180 مليار يورو خلال السنوات الأربع المقبلة[3].
- استقرار مفقود: تعانى فرنسا أزمة سياسية مشابهة لحليفتها ألمانيا؛ فعقب انتخابات البرلمان الأوروبي، وتراجع حزب ماكرون، تم حل البرلمان الفرنسي، وعُقدت انتخابات تشريعية أسفرت عن برلمان بدون أغلبية لأي حزب، وخلال ستة أشهر سُحِبت الثقة من الحكومة الفرنسية، ولم يستطع ماكرون عقد انتخابات جديدة، وهو ما جعل الحكومة الحالية معرضة للحل في أي وقت حتى أقرب فرصة لانتخابات أخرى ممكنة بحلول يوليو (تموز) 2025؛ ما يعني أن أكبر دولتين في الاتحاد الأوروبي، وهما المحور الرئيس المحرك للقرار الأوروبي، منشغلتان داخليًّا انشغالًا يعوق حركتهما، في الوقت الذى تواجه أوروبا معضلة حروب تجارية وتنافسية بين الصين والولايات المتحدة.
النتائج المحتملة
تمنح استطلاعات الرأي تفوقًا للاتحاد المسيحي والبديل من أجل ألمانيا، مع تراجع الاشتراكيين والخضر، وتذيل اليسار، وتحالف “سارة فاغنكنيشت”، والديمقراطي الحر. وبحسب ما نشر في مواقع مثل “يوغوف” البريطاني، ودويتشه فيله الألماني، وبوليتيكو الأمريكي، ومنصة الانتخابات الأوروبية “بوليتبرو”، فإن نتائج الانتخابات الألمانية تنحصر كما يلي:
- الاتحاد المسيحي: 29.1% حدًّا أدنى، و32.1% حدًّا أقصى.
- حزب البديل من أجل ألمانيا: 18% حدًّا أدنى، و21% حدًّا أقصى.
- الحزب الاشتراكي: 13% حدًّا أدنى، و17% حدًّا أقصى.
- الخضر: 12% حدًّا أدنى، و15% حدًّا أقصى.
- اليسار، والديمقراطي الحر، وتحالف سارة فاغنكنيشت: لا يتوقع أن تحصل هذه الأحزاب على فرص كبيرة لدخول البوندستاغ، أو نيل مقاعد تغير من المنافسة على الاستشارية، ما بين توقع عدم حصول “الديمقراطي الحر” على أكثر من 3%، واستطلاعات رأى قليلة تمنحه فقط 5%، وبين أن يتخطى اليسار “دي لينكه” بالكاد عتبة البرلمان”5%”، وكذلك الحال نفسها تنطبق على تحالف “سارة فاغنكنيشت”.
لذا فإن هناك سيناريوهين لنتائج الانتخابات الألمانية؛ ومن ثم تشكيل الحكومة المقبلة، وهما:
- الائتلاف الكبير: بفرض صحة استطلاعات الرأي وحدوثها، فإن “الاتحاد المسيحي” لا يستطيع تشكيل حكومة في ظل ما يسمى بجدار الحماية الذي يمنع التحالف مع حزب البديل من أجل ألمانيا، الذي قد يحصد 20% من مقاعد البرلمان؛ ومن ثم فليس أمام ميرتس سوى التفاوض مع الاشتراكيين والخضر، مع توقع عدم دخول “الديمقراطي الحر” البوندستاغ، وهو ما يتطلب شهورًا طويلة قد تتخطى 6 أشهر كما حدث في الحكومة الأخيرة لميركل عام 2018.
- حكم اليسار: يطمح المستشار الألماني أولاف شولتز ألا تصدق استطلاعات الرأي، على اعتبار أن أسهمه لم تكن قوية في الانتخابات 2021، ومع ذلك تغيرت الأوضاع إلى الأفضل قبيل الانتخابات، كما أن هناك تخوفًا من شخصية ميرتس في بعض استطلاعات الرأي، مع تقدم ضئيل حصل عليه شولتز في المناظرة الأولى التليفزيونية أمام نظيره زعيم حزب الاتحاد المسيحي. وإذا تفوق شولتز، وتقدمت أسهم حزبه، فربما يستطيع تشكيل حكومة يسارية مع أحزاب اليسار والخضر وتحالف سارة فاغنكنيشت، أو أخرى مثل الائتلاف الكبير (الاتحاد المسيحي مع الاشتراكيين)، لكن شريطة رحيل ميرتس.