إنحناء الرؤوس أمام حزب الله
لم يجد القضاء العسكري الذي يتربّع فوق رأس النظام الأمني اللبناني ضالته سوى في ملاحقة الأستاذ الجامعي والباحث السياسي مكرم رباح المعروف بمواقفه الحادة ضد "حزب الله".
تسعى مؤسسات الدولة في لبنان الى إثبات حضورها، على الرغم من كل ما حلّ بها من ويلات سياديّة ودستوريّة واقتصاديّة وماليّة.
وفي وقت تمّ فيه إقصاء الدولة ومؤسساتها عن الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، وتعالت فيه الصرخات من تفلّت سلاح القوى المنضوية في إطار “جبهة المقاومة” بين السكان، وكان آخرها الظهور المسلّح لـ”الجماعة الإسلامية” في العاصمة، وسط تبريرات تتمحور حول رفض الاعتراف بالحدود وبالدستور، إذ إنّ الحدود رسمها سايكس – بيكو والدستور لا يحل مكان القرآن الكريم.
كما قال نائب رئيس الجماعة الإسلامية الشيخ عمر حيمور، قبل أيّام قليلة، (في هذا الوقت) لم يجد القضاء العسكري الذي يتربّع فوق رأس النظام الأمني اللبناني ضالته سوى في ملاحقة الأستاذ الجامعي والباحث السياسي مكرم رباح المعروف بمواقفه الحادة ضد “حزب الله”، وهي مواقف تتماهى الى حد كبير مع سقف الشهيد لقمان سليم الذي كان قد اغتيل، في الجنوب، عقب تهديدات بالقتل تلقاها من “حزب الله”!
الحدث ليس في تكليف مفوضية الحكومة لدى المحكمة العسكرية للأمن العام اللبناني باستدعاء هذا الناشط السياسي المعارض الى التحقيق، بعد إدلائه بمواقف ضد “حزب الله” ونشاطاته العسكرية، بل في ما قيل لمكرم رباح خلال الاستجواب.
وعلى الرغم من مرور ساعات على كشف رباح ما حصل معه في التحقيق، لم يصدر عن القضاء اللبناني ما من شأنه نفي صحة ما قاله هذا الناشط الذي خرج من التحقيق أقوى ممّا دخل اليه.
أفاد رباح بأنّ مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي طلب من رتيب التحقيق في المديرية العامة للأمن العام القول لرباح: “ولو يا مكرم ألا تعرف أنّ حزب الله هو مقاومة لبنانية جرى تشريعها في البيان الوزاري؟”.
وعلى هذه الخلفية التي أبلغها عقيقي الى رباح جرى التعاطي مع “المستجوَب” على أنّه مشتبه به كـ”عميل صهيوني”!
وعليه، فإنّ السؤال الذي طرحه ما فضحه رباح عن عقيقي، يطرح السؤال عن القوة القانونية للبيان الوزاري.
ولكن قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإشارة الى أنّ البيان الوزاري لم يتحدث بأيّ شكل من الأشكال عن “حزب الله” الذي يولي “المقاومة الإسلامية في لبنان” قوّته المسلّحة ويكلّفها بالقيام بمهام في لبنان وسوريا واليمن وحيث ارتأى، بالاتفاق الكامل مع “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني”. وهذا التنظيم المسلّح المسمى “المقاومة الإسلامية في لبنان” تتوافر أمواله ولباسه وعتاده وطعامه وأسلحته من إيران، وفق ما سبق أن أعلن الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله.
ولقد ورد في البيانات الوزارية المتعاقبة منذ العام 2014 النص الآتي: “التأكيد على الحق للمواطنين اللبنانيين في المقاومة للاحتلال الإسرائيلي ورد اعتداءاته واسترجاع الأراضي المحتلة”.
وجاء هذا النص بمثابة تسوية بين رافضي سلاح “حزب الله” ودوره من جهة و”حزب الله” نفسه، من جهة أخرى، إذ حلّ مكان الشعار الذي كان يتربع في البيانات الوزارية السابقة، حيث جرى تكريس شعار “الحزب”: الشعب والجيش والمقاومة!
وهذا النص لا يلزم أيّ مواطن لبناني أن يرى في “المقاومة الإسلامية في لبنان” مقاومة مواطنية لبنانيّة، إذ إنّ هذا الفصيل بطبيعته ليس لبنانيّاً بل ينشط في لبنان.
كما أنّ هذا النص الوارد في البيان الوزاري لا يتيح لـ”حزب الله” أن يفتح جبهة لبنان من أجل أن تكون جزءاً من الساحات التي تريد أن تتحد لمحاربة إسرائيل.
والأهم من ذلك أنّ البيان الوزاري، مهما ورد فيه، يضع السياسات العامة للحكومة اللبنانية ولا يشرّع توجهاتها، بحيث يجعلها قوانين يُعاقب كل من يخرقها.
وهذا يعني أن معارضة “حزب الله” ليست خرقاً للقانون، بغض النظر عن فحوى البيان الوزاري، ولا تتيح للقاضي، مهما كان موقفه أو رأيه أو مصلحته، أن يلاحق المواطنين اللبنانيين على أساسها!
في الواقع إنّ البيان الوزاري لا يلزم حتى الحكومة نفسها بمضمونه، إلّا لفترة وجيزة جدّاً، ولذلك، نجد أنّ هناك قوى موجودة في الحكومة الحالية تعلن، بوضوح، وقوفها ضد “وحدة الساحات” وفتح الجبهة اللبنانية خدمة لغزة، الأمر الذي ينطبق على سبيل المثال لا الحصر على “التيار الوطني الحر” والرئيس السابق للجمهورية ميشال عون. “التيار” هو جزء من ائتلاف الحكومة وعون هو من وقع مرسومها.
والأهم أنّ هذه الحكومة، بمكوّناتها وتركيبتها، لم تعد تعبّر عن الواقع الدستوري في البلاد، فهي حكومة تصريف أعمال مستمرة من ثقة منحها إياها مجلس نيابي سابق، أي أنّ المجلس النيابي الحالي لم ينظر في بيانها الوزاري، ليوافق عليه أو يرفضه أو يتحفظ على أجزاء من مضمونه.
إنّ محاولة القضاء العسكري التعامل مع البيان الوزاري كما لو كان نصاً دستوريّاً أو قانونيّاً خطرة للغاية، فهو إذا سُمح له أن يكون أداة تهديد، فهذا يعني أنّ نصف المجلس النيابي، على الأقل، وبعض الحكومة وشرائح واسعة من اللبنانيّين أصبحوا تحت سقف الخطر، إن لم يحنوا رؤوسهم أمام “حزب الله”!