أفريقيا

الهجرة غير الشرعية ودعم أوروبا لمصر

استثمرت القاهرة ملف الهجرة اقتصاديا في الحصول على استثمارات واعدة لتتمكن من ممارسة دورها، وتسهيل التفاهم مع صندوق النقد الدولي في زيادة قرض قديم من ثلاثة مليارات إلى ثمانية.

يعرف المتابعون للعلاقات بين غالبية دول أوروبا ومصر أنها باتت محكومة إلى حد كبير بملف الهجرة غير الشرعية، والذي لعبت القاهرة دورا مهما في ضبطه خلال السنوات الماضية، وهي في معركتها الحاسمة للقضاء على الجماعات الإرهابية التي كانت تستخدم البحر المتوسط وسيلة للتسلل إلى السواحل المصرية، الأمر الذي التفتت إليه دول أوروبا وثمّنته ومدت يدها لتقديم مساعدات أمنية واقتصادية بسببه.

عندما انتهت مصر من مهمتها الرئيسية في مكافحة الإرهاب، بدأت مشاكل الهجرة غير الشرعية عبر جنوب البحر المتوسط إلى أوروبا تزداد حدة، وتطفو مشاكلها في مناقشات الكثير من المسؤولين الأوروبيين مع قادة دول شمال أفريقيا، في مقدمتهم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الذي أبدى تعاونا معهم، على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها بلاده، من هنا تصاعد طريق التنسيق بين أوروبا والقاهرة على قاعدة فرملة الهجرة غير الشرعية نظير تقديم مساعدات اقتصادية.

اعتنت الزيارة التي قام بها رؤساء وزراء اليونان وإيطاليا وبلجيكا ورئيسة المفوضية الأوروبية إلى القاهرة، الأحد، بمسألة المساعدات الغربية، وأعلن عن تقديم نحو 8 مليارات دولار في شكل استثمارات من دون الإعلان عن المقابل المطلوب، لكن المتابع للنمو الحاصل في العلاقات بين الجانبين يستطيع معرفة أن المطلوب هو بذل مصر أقصى جهودها للتعاون في تحجيم الهجرة غير الشرعية ومد سيطرتها على سواحلها والسواحل القريبة منها في ليبيا بعد أن أصبحت بوابة للكثير من السفن العاملة في مجال تهريب المهاجرين من شمال ووسط أفريقيا إلى جنوب أوروبا.

ملف الهجرة غير الشرعية سوف يظل يؤرق بعض الدول الأوروبية، مع تنامي تيار اليمين المتطرف، إذ ترى شريحة منه في الآخر خطرا يجب بتره، ما جعل التعاون مع مصر حيويا

استثمرت القاهرة ملف الهجرة اقتصاديا في الحصول على استثمارات واعدة لتتمكن من ممارسة دورها، وتسهيل التفاهم مع صندوق النقد الدولي في زيادة قرض قديم من ثلاثة مليارات إلى ثمانية، وهي فوائد مباشرة وتقليدية، فمصر تعلم الأهمية التي ينطوي عليها انفلات الهجرة غير الشرعية بالنسبة إلى بعض الدول الغربية، لكن الفوائد غير المباشرة وغير التقليدية تتعلق بوقف ممارسة الضغوط عليها للقبول بمخطط إسرائيلي لتهجير فلسطينيي قطاع غزة إلى سيناء، ولذلك لوحت مصر بوجود نحو تسعة ملايين مقيم أجنبي في أراضيها يحلمون بعبور المتوسط إلى أوروبا.

كانت هذه الإشارة التي تم التلويح بها بعد اندلاع الحرب على غزة نقطة مفصلية في تغيير الموقف الأوروبي من توطين الفلسطينيين والحديث عن الممانعة لهذا الاتجاه، ودعم مصر في رفض القبول به عمليا، حيث وصلت رسالة القاهرة الخاصة بإمكانية فتح الحدود مع ليبيا لخروج بضعة ملايين يريدون الهجرة إلى أوروبا، بعدها بدأ الخطاب الغربي يضبط بوصلته على تقديم مساعدات وضخ استثمارات إلى مصر.

أخذت بعض وسائل الإعلام الغربية تكرر الحديث عن ضرورة إنقاذ مصر وعدم تركها نهبا لأزمة اقتصادية متفاقمة، وما يمكن أن تجره من تداعيات تتجاوز حدود الشرق الأوسط لتصل إلى أوروبا وتضر بمصالحها في المنطقة، وظهرت تحركات تؤكد مساعدة مصر، في خلفيتها محادثات حول ملف الهجرة غير الشرعية.

أضفت زيارة مسؤولين كبار من أوروبا إلى القاهرة طابعا إيجابيا على العلاقات البَيْنِيّة، وأدخلتها مربعا يحصل فيه كل طرف على ما يريده بلا افتعال توترات تؤثر على الروابط المشتركة، وترطيب الأجواء بشأن بعض القضايا الخلافية، بعضها له طابع إقليمي مثل عملية التسوية السياسية في المنطقة، وبعضها له طابع ثنائي مثل التحفظات التي تظهرها دول غربية حول ملف حقوق الإنسان والحريات العامة في مصر.

أظهرت دول أوروبا تجاوبا ظاهرا في عملية التسوية، وكشفت عن تأييد لأهمية قيام دولة فلسطينية، ولا يزال المشوار طويلا للتوصل إلى صيغة مقبولة لهذه المسألة، لكن إبداء تعاطف والحديث عن حل للصراع بالأدوات السياسية يعيد للقضية الفلسطينية جانبا من بريقها الإقليمي والدولي، وهو ما يتماشى مع التوجه المصري المؤيد لمسار السلام، باعتباره الطريق المناسب لتوفير الأمن والاستقرار في المنطقة، والذي سيتم اختباره عقب وقف الحرب على غزة وما تفرزه من نتائج سياسية وعسكرية.

أظهرت أوروبا تفهما للتعامل المصري مع ملف حقوق الإنسان والحريات من خلال غض الطرف عنه وعدم الحديث علنا، أو فتحه باستفاضة على جدول أعمال اللقاءات التي تعقد بين قادتها والمسؤولين في مصر، وبدت هناك قناعة بأن ممارسة ضغوط لتحسين سجل القاهرة الإنساني غير مجدية، ليس لوجود تصميم من الأخيرة على عدم التجاوب أو الاقتناع بأن الأولى فقدت حماسها، بل لأن هناك مصالح حيوية أكثر أهمية، وتطورات جديدة أسهمت في عدم منح أولوية غربية لهذا الملف.

عندما انتهت مصر من مهمتها في مكافحة الإرهاب، بدأت مشاكل الهجرة غير الشرعية عبر جنوب المتوسط إلى أوروبا تزداد حدة، وتطفو مشاكلها في مناقشات المسؤولين الأوروبيين مع قادة دول شمال أفريقيا

على صعيد المصالح، لن تستطيع أوروبا الضغط على مصر بورقة حقوق الإنسان وغالبية دولها تتعامل بصورة قاتمة مع المهاجرين الذين جاؤوا بطرق قانونية أو من خلال الهجرة غير الشرعية، فما يتم نشره في بعض وسائل الإعلام من تجاوزات بحق هؤلاء وهؤلاء يضعف حجج وشعارات حقوق الإنسان، ناهيك عن الحاجة إلى مصر للتعاون في منع الهجرة، فكيف تقوم أوروبا بالضغط وتطلب تعاونا مصريا.

وعلى صعيد التطورات، فرّغ موقف عدد كبير من الدول الأوروبية من الحرب على غزة ومساندة إسرائيل بذريعة حقها في الدفاع عن النفس وتجاهل ما تقوم به من انتهاكات بحق المدنيين، خطابها السياسي من معانيه الإنسانية، وأصبحت مصداقيته على المحك بشأن القيم الأخلاقية التي كانت جزءا من سياستها الخارجية.

ويعني ذلك أن مناقشة حقوق الإنسان سوف تتم على استحياء مع مصر أو غيرها، ويمكن وضع هذا الملف على الرف إلى حين تحسين صورة أوروبا ونجاحها في إحداث توازن كبير بين قيمها في مسألة الحريات ومصالحها الحيوية في المنطقة.

سوف يظل ملف الهجرة غير الشرعية يؤرق بعض الدول الأوروبية، مع تنامي تيار اليمين المتطرف، إذ ترى شريحة منه في الآخر خطرا يجب بتره، ما جعل التعاون مع مصر حيويا، فالمساعدات والاستثمارات التي ستقدم لها تحمل في جوهرها هدفا محوريا يتعلق بمدى تعاونها في ضبط الهجرة غير الشرعية، والتي تحتاج أكثر مما هو معلن من الطرف الأوروبي، لما يحمله هذا الملف من تعقيدات إقليمية.

إذا كانت مبررات القاهرة في الصدام مع الجماعات الإرهابية تلاشت بعد تقويض خطرهم الذي هدد مصالحها، فالقضاء على الهجرة غير القانونية لا يقع على كاهل مصر وحدها، ما يعني من الضروري أن يكون هناك تعاون واسع، فسواحل مصر منضبطة، بينما سواحل ليبيا الواسعة لن تتمكن القاهرة من ضبطها في غياب تعاون جماعي، يضمن سيطرة حقيقية على مفاتيح الهجرة غير الشرعية.

محمد أبوالفضل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى