إن أوروبا في احتياج ماس إلى إعادة التسلح. ولا يتطلب غزو روسيا لأوكرانيا، والتهديد الأوسع الذي يشكله نظام الرئيس فلاديمير بوتن على أوروبا، أقل من ذلك. كما أوضحت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الآن أن لا أوكرانيا ولا حلفاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي يستطيعون الاعتماد على استمرار الدعم الأميركي. ولعل هذه الدعوة القاسية بشكل خاص كفيلة بإيقاظ الحكومات الأوروبية من سباتها.
إن كان الأمر كذلك، فإن السؤال الكبير هنا هو كيف يمكن تمويل الزيادة المطلوبة في الاستثمار العسكري في وقت حيث تعاني اقتصادات أوروبا من الضعف، وتعاني المالية العامة من الإجهاد، ويشعر العديد من الناخبين بالتردد في قبول تخفيضات في الإنفاق الحكومي. والواقع أن حجم التحدي هائل حقاً. ذلك أن الاقتصاد الروسي على أهبة الاستعداد للحرب، وجيشه متمرس في المعارك، ولديه مخزون ضخم من الأسلحة النووية. ورغم أن اقتصاد أوروبا يتضاءل أمام اقتصاد روسيا، فإن تقريراً صدر مؤخراً عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية يقدر أن الإنفاق العسكري الروسي في العام الماضي (462 مليار دولار أميركي) كان أعلى من الإنفاق العسكري الأوروبي (457 مليار دولار أميركي)، بعد تعديله وفقاً للقوة الشرائية.
لقد كافحت القوى الكبرى في أوروبا من أجل الوفاء بهدف حلف شمال الأطلنطي المتفق عليه مسبقاً في أوقات السلم، والذي يقضي بإنفاق 2% على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع. ولم تتمكن فرنسا وألمانيا من تحقيق أكثر من هذا بقليل في العام الماضي، في حين بلغت بريطانيا 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذه الأرقام غير كافية على الإطلاق في عصر عادت فيه الحرب إلى القارة، وبات لزاماً على أوروبا أن توفر لنفسها الأمن.
يريد ترامب من الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي الأوروبية أن ترفع إنفاقها الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين يقر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته بالحاجة إلى “أكثر من 3%”. وقد رفعت بولندا بالفعل إنفاقها العسكري إلى أكثر من 4% من الناتج المحلي الإجمالي، بهدف الوصول إلى 5%، ولا تتخلف عنها دول أخرى في الخطوط الأمامية مثل إستونيا وليتوانيا كثيراً. والآن يتعين على بقية أوروبا أن تحذو حذوها.
ولكن كيف ينبغي للحكومات أن تمول هذه الجهود؟ ففي ظل ركود الاقتصادات الأوروبية وكفاح العديد من الأوروبيين، لا ترغب الحكومات في زيادة الضرائب أو خفض الإنفاق على الرعاية الاجتماعية. ورغم أن مثل هذه التدابير قد تكون ضرورية في نهاية المطاف، فإن الحل الواضح سياسياً في الوقت الراهن هو الاقتراض. وهذا من شأنه أن يكون منطقياً من الناحية الاقتصادية أيضاً، لأن زيادة الإنفاق الدفاعي تشكل في واقع الأمر استثماراً في مستقبل أوروبا.
صحيح أن الديون الحكومية المرتفعة، والقواعد المالية للاتحاد الأوروبي، والقيود السياسية المحلية تجعل زيادة الاقتراض أمرا صعبا بالنسبة للعديد من البلدان. ولكن هناك ثلاثة خيارات على الأقل للتخفيف من حدة هذه العوامل. الأول هو استبعاد الاستثمار في الدفاع من القواعد المالية للكتلة، والتي تحد على نطاق واسع من الاقتراض الحكومي إلى 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي. في العام الماضي، أطلقت المفوضية الأوروبية “إجراء العجز المفرط” ضد بولندا، التي زعمت بحق أن زيادة اقتراضها كانت ضرورية لحماية البلاد – وبقية أوروبا – من التهديد الروسي المتزايد.
إقرأ أيضا : أوروبا وأميركا: لحظة الافتراق وتغير العالم
ولحسن الحظ، يبدو أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين قد تبنت الموقف البولندي. فهي تقترح تفعيل بند الهروب من ميثاق الاستقرار والنمو (الذي يسمح بزيادة الاقتراض أثناء الأزمات) للسماح بزيادة الاستثمار الدفاعي. وفي حين اعترضت ألمانيا وغيرها من البلدان التي تتبنى سياسة التقشف المالي في السابق على منح مثل هذه المرونة الإضافية، فقد يتغير هذا بعد الانتخابات الألمانية في الثالث والعشرين من فبراير/شباط، نظراً لإدراك البلاد المتأخر لضعفها.
وبما أن ألمانيا ذاتها تعاني من انخفاض الدين العام وعجز الميزانية الصغير، فإن القواعد المالية للاتحاد الأوروبي لن تمنعها من الاقتراض أكثر لتحديث دفاعاتها الضعيفة. ولكنها مقيدة بفرامل الديون الدستورية الخاصة بها، والتي قدمتها المستشارة أنجيلا ميركل في عام 2009، والتي تطبقها المحكمة الدستورية القوية في البلاد بقوة. ولكن مرة أخرى، قد يكون هناك انفتاح أكبر على تعديل هذا الإجراء بعد الانتخابات.
ولكن القواعد المالية ليست القيد الوحيد؛ بل إن أسواق السندات تشكل أيضاً عائقاً. فقد تجاوز الدين العام الفرنسي بالفعل 110% من الناتج المحلي الإجمالي، وتكافح حكومتها الأقلية لتمرير ميزانية من شأنها أن تقلص العجز المتضخم في ميزانيتها (6.1% من الناتج المحلي الإجمالي). وقد أدى الوضع السياسي المتدهور في البلاد إلى زيادة القسط الذي يتعين عليها أن تدفعه مقارنة بالديون الألمانية. والواقع أن أسعار الفائدة على الديون الفرنسية تجاوزت لفترة وجيزة أسعار الفائدة على الديون اليونانية في العام الماضي.
وهناك خيار ثانٍ، إذن، يتمثل في أن تقترض الحكومات الأوروبية بشكل جماعي لتمويل استثمار لمرة واحدة في القدرة الدفاعية، كما اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وهناك سابقة لذلك: صندوق التعافي من كوفيد-19 التابع للاتحاد الأوروبي والذي تبلغ قيمته 750 مليار يورو (782 مليار دولار أميركي). ومن الممكن أن تؤدي جولة أخرى من الاقتراض المشترك بقيمة 500 مليار يورو (3% من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي) إلى تضخيم الإنفاق الدفاعي للدول الأعضاء، والمساعدة في ترشيد المشتريات الدفاعية الأوروبية، وربما تعزيز شركات الدفاع الأوروبية.
المشكلة هنا هي أن رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان مؤيد لبوتن علناً، في حين حافظت أربع دول أخرى في الاتحاد الأوروبي (النمسا وأيرلندا وقبرص ومالطا) على حيادها الرسمي تجاه روسيا. فضلاً عن ذلك فإن الدول الأوروبية الشمالية التي تتسم بالاقتصاد المالي كانت حتى الآن مترددة في فرض المزيد من القيود على اقتراض الاتحاد الأوروبي.
إن أحد الحلول المحتملة هو تشكيل ائتلاف من الحكومات الراغبة في إنشاء آلية خاصة منفصلة عن الاتحاد الأوروبي، والتي قد تصدر سندات مشتركة مدعومة بضمانات من الحكومات المشاركة. وهذا لن يتجاوز الدول الأعضاء المتمردة في الاتحاد الأوروبي فحسب؛ بل سيسمح أيضاً بمشاركة شركاء دفاعيين من خارج الاتحاد الأوروبي مثل النرويج وبريطانيا. وقد تجد حكومة حزب العمال البريطانية الجديدة نسبياً هذا الأمر جذاباً بشكل خاص، نظراً للقيود المالية الداخلية التي تفرضها.
وأخيرا، يتلخص الخيار الثالث في توسيع نطاق الإقراض الذي يقدمه بنك الاستثمار الأوروبي. وفي حين يستطيع بنك الاستثمار الأوروبي بالفعل تمويل المشاريع ذات الاستخدام المزدوج (المدني/العسكري)، مثل تلك التي تنتج الطائرات بدون طيار والأقمار الصناعية، اقترحت 19 حكومة في الاتحاد الأوروبي مؤخرا السماح له أيضا بتمويل الإنفاق العسكري بالكامل، مثل الاستثمارات في تصنيع الدبابات والذخيرة.
ولكن أياً كانت مصادر تمويلها، فإن أوروبا في احتياج إلى إعادة التسلح الآن. ذلك أن زيادة الإنفاق الدفاعي لتجنب هزيمة أوكرانيا وردع العدوان الروسي الأوسع نطاقاً أقل تكلفة كثيراً من خوض حرب شاملة. وإلا، كما يحذر روته، فسوف يضطر الأوروبيون إما إلى تعلم اللغة الروسية أو الانتقال إلى نيوزيلندا.