بريطانيا ذات الوجهين
الإسلاموفوبيا والعداء للسامية ليسا جديدين على الساحة البريطانية، لكن حرب غزة أعطتهما زخماً قل نظيره، وأصبحا ورقة سياسية يستخدمها سياسيون من أجل تعزيز موقعهم، وحصد الأصوات للوصول للسلطة على حساب وحدة البلد وتآلف أهله.
لا أحدَ ينكر أنَّ الديمقراطيةَ في بريطانيا تشكو من عللٍ مقلقة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، ولا شك أنَّها اعتلَّت أكثر بسبب أحداث غزة، وبالذات بعد توحّد الموقف السياسي البريطاني حكومةً ومعارضةً على دعم إسرائيل دعماً مطلقاً؛ لذلك ظهرت بريطانيا بمشهدين مختلفين: خارجي وداخلي. المشهد الخارجي قناعة تامة بأنَّ الشعبَ البريطاني خرج بمظاهرات معارضاً حكومته، وأنَّ المسلمين في بريطانيا أصبحوا قوةً سياسيةً مؤثرة في سياسة البلاد الخارجية؛ والمشهد الداخلي انقسام جليٌّ إزاء ظاهرة معاداة المسلمين (الإسلاموفوبيا) والعداء للسامية، وبهما الخشية من تصدع وحدة البلاد.
وقد شاهدَ المواطنون البريطانيون والعالمُ رئيسَ الوزراء سوناك يضع طاولة خارج مقرّه ليتحدَّث إلى مواطنيه حول أمر خطير وهو الخوف على وحدة البلاد من التشدّد الإسلامي ومقابله التشدّد اليميني، ووعدهم بكلمته أنَّه سيصدر تشريعات جديدة تعرف «التشدد»؛ وهكذا انتشر فيروس الخلاف داخل أروقة السياسة وفي الشارع حول كيف تتعامل الديمقراطية مع واقعة خارجية مثل غزة أدَّت داخلياً إلى ارتفاع هائل بنسب الاعتداء على مسلمين ويهود في شوارع كانت آمنة. المحزن أن اليهود والمسلمين هم الأكثر تعرضاً للتهديد من اليمين المتطرف الذي انحاز تكتيكياً لليهود، وهو يمقتهم لكي يأكلَ الثور الأبيض قبل الثور الأسود.
الإسلاموفوبيا والعداء للسامية ليسا جديدين على الساحة البريطانية، لكن حرب غزة أعطتهما زخماً قل نظيره، وأصبحا ورقة سياسية يستخدمها سياسيون من أجل تعزيز موقعهم، وحصد الأصوات للوصول للسلطة على حساب وحدة البلد وتآلف أهله. وكمثال فإنَّ وزيرة الداخلية السابقة سولا بريفرمان، التي قربها سوناك، كتبت مقالة اتهمت فيها الشرطة بتجاهل «بلطجية» مؤيدين للفلسطينيين، بينما تعاملت بقسوة مع المؤيدين لليمين المتشدد؛ وقالت في مقالة أخرى إنَّ «الإسلاميين يُخضِعون بريطانيا بالبلطجة»، وكذلك قال النائب أندرسون، شغل سابقاً منصب نائب مدير حزب المحافظين، إن عمدة لندن المسلم صادق خان «واقع تحت تأثير الإسلاميين»، وصرح النائب المحافظ بول سكيلي بأن ثمة «شوارع في لندن وبرمنغهام لا يمكن دخولها»، قاصداً هيمنة الإسلاميين عليها.
هذه التصريحات من نواب محافظين، يقابلها تصريحات معادية للسامية في حزب العمال، ورغبة ظاهرة من زعيمه كير ستارمر بمحاربتها، بينما يتقاعس زعيم حزب المحافظين سوناك في مواجهة الإسلاموفوبيا، وهذا يعود إلى أن كلاً منهما يستغلان السامية والإسلاموفوبيا باتهام بعضهما بالتخاذل، وبذلك تصبح السامية والإسلاموفوبيا مادة متداولة توفر الأكسجين الضروري لانتشار الشعبوية التي تضرب بالصميم الأساس الديمقراطي بتشكيكها بشرعية تمثيل النخب، ورغبتها في تغيير المؤسسات الديمقراطية، واختصار الشعب بممثليها. وهذا قمة الخطر.
أدخلت حرب غزة الهوية الثقافية في المعادلة السياسية البريطانية، وبدأت تتحول الديمقراطية من العقلانية إلى الغرائزية، وإلى معادلة صفرية مفادها: أي مكسب لهوية هو خسارة للأخرى؛ فالرئيس الفخري لحزب «الإصلاح» نايجل فراج الذي كان سبباً في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أيَّد أندرسون قائلاً إنه يقول ما يتردد على شفة ولسان الملايين من البريطانيين؛ لذلك قال أندرسون: «أريد استعادة بلادي»، ورد عليه غلاوي أنه يهدي الانتصار لغزة. لكن لا غلاوي قدم شيئاً للمسلمين في انتخابات سابقة، ولا أندرسون وأمثاله خدموا بلدهم، بل أسهموا جميعاً في تفتيت وحدة البلاد، وأشعلوا نار الفتنة جرياً وراء منافع حزبية وشخصية. والدليل أن النواب الآن يخافون على حياتهم، لدرجة أن النائبة المسلمة زهرة سلطانة تتلقَّى يومياً تهديدات وإساءات منها: «أرجعوها إلى فلسطين» ما دامت تؤيد غزة.
إنها نفس الشعبوية التي مارسها الرئيس ترمب عندما وصف المهاجرين بأنهم مرض، واتهمهم باغتصاب نساء، وقال لمؤيديه إنه ثري وإنه يعرف كيف يجعلهم أثرياء مثله؛ وعلى خطى ترمب يستخدم الشعبويون والهوياتيون مأساة غزة مطية للوصول إلى السلطة، ويبدو أنهم ينجحون، ويثبتون أقدامهم؛ لكن هذا سيرتد سلباً على الأقليات بالدرجة الأولى وعلى وحدة البلاد، ثم على الديمقراطية التمثيلية. ولكيلا يقع هذا المصاب على المسلمين في بريطانيا عليهم أن يعوا حقيقة وجودهم بوصفهم أقلية، ويدركوا أن ثمة أجندات أكبر منهم، وأن مصالح البلاد لا تحددها رغبة من رغباتهم، وعليهم أن يحذروا العواطف التي تقودهم لمطبات تهدد وجودهم الفاعل.
وهذه ليس دعوة لانسحابهم من الحياة السياسية العامة بل حث على المشاركة بعقلانية مستنيرة، لا بعاطفة جامحة، والابتعاد عن عقد تحالفات مع يسار متشدد يعيش على الازدواجية الأخلاقية وآخر همه مصالح المسلمين بوصفهم مجموعة دينية؛ فاليسار البريطاني الذي نزل لشوارع بريطانيا هو ذاته لم يحرك ساكناً لمأساة المسلمين في سوريا.
كما تستوجب العقلانية الابتعاد عن العاطفة، والتسليم أن النائب في البرلمان، كما يقول الفيلسوف ومُنظِّر الديمقراطية إدموند بيرك، ليس مجبراً أبداً أن يمشي وفق رغبات ناخبيه، بل وفق ما يراه ضميره وتقديره لمصلحتهم، والناخبون لديهم الفرصة للتخلص من النائب في انتخابات مقبلة؛ وليس مقبولاً التجمهر أمام بيت نائب، وسبه وشتمه، وربما اندفاع البعض في حالة غضب لارتكاب جريمة؛ فالديمقراطية هي إدارة معقدة لمصالح متضاربة، وليست كما ينادي المتظاهرون بأنها نزول عند رغبة الشعب؛ فإرادة الشعب مصطلح خطير تعبر عنه الانتخابات وليس المظاهرات.
إنَّ قضية غزة مهمة لمسلمي بريطانيا، لكنَّها تبقى قضية خلافية في الداخل البريطاني، ومن واجب المسلمين البريطانيين ألا يصبحوا ورقة يستخدمها الشعبويون ضدهم، ولا مطية لليساريين المتشددين، وإلا فسيصبحون هم الهدف كما رأينا في التعريف الحكومي الجديد للتشدد. المسلمون في بريطانيا في خطر لأنَّهم الأضعف، ولأنَّ الشعبوية تقتات على هويتهم، والانتباه مطلوب منهم قبل فوات الأوان.