بعد عقودٍ من التخطيط؛ شهد مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء The Trans-Saharan Gas Pipeline (TSGP) (المعروف أيضًا باسم NIGAL)، تقدُّمًا جديدًا بتوقيع اتفاقيات لإطلاق المشروع في الحادي عشر من شهر فبراير الجاري؛ حيث اجتمع وزراء النفط في الجزائر والنيجر ونيجيريا لإعادة إطلاق هذا المشروع الجيواقتصادي، الذي يهدف إلى ربط الغاز الإفريقي بالأسواق الأوروبية، وتقليل هيمنة القوى الخارجية على موارد القارة، كما أنه سيُعزِّز التعاون الاقتصادي بين الدول الثلاث، ويفتح آفاقًا جديدة للاستثمار والتنمية والاستفادة من الثروات الهيدروكربونية الهائلة في القارة الإفريقية.
شملت الاتفاقيات الرئيسية الثلاث؛ اتفاقية تحديث دراسة الجدوى والدراسة الفنية للمشروع، واتفاقية عدم الإفصاح (NDA)، وهي عقد ملزم يحافظ على سرية المعلومات الحيوية للمشروع، بدءًا من التصاميم الهندسية وحتى الخطط التسويقية، مما يحمي الميزة التنافسية للشركاء ويضمن استمرارية المشروع.
واتفاقية السداد التي تُحدِّد الشروط التفصيلية لسداد التكاليف بين الشركاء، بما في ذلك المبالغ المستحقة، والمواعيد النهائية، وآليات الدفع، وضمانات السداد، وحلّ النزاعات المحتملة.
وقد وقَّع على تحديث دراسة الجدوى وزراءُ الطاقة والمناجم في البلدان الثلاث، بينما وقَّع على اتفاقية السداد واتفاقية عدم الإفصاح رؤساءُ الشركات النفطية، الأمر الذي يؤكد دخول المشروع مرحلة التنفيذ الفعلي، في وقتٍ تسعى فيه إفريقيا إلى تحرير ثرواتها الطاقوية، مما يعكس الإرادة السياسية القوية لتحقيق التكامل الإفريقي في مجال الطاقة.
البداية التاريخية للمشروع:
يعود تاريخ فكرة مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء إلى أكثر من أربعة عقود؛ حيث تم تصوره كشريان حيوي لتزويد أوروبا بالغاز الطبيعي. ورغم التوقيع على أول مذكرة تفاهم لتنفيذ المشروع في عام 2002م، بين شركة “سوناطراك” الحكومية الجزائرية، والمؤسسة الوطنية للنفط النيجيرية، وشركة نيجريا للمنتجات البترولية (سونيديب) في النيجر، والتي رسمت خارطة الطريق لتحقيق هذا الحلم؛ إلا أن المشروع واجَه تحديات عديدة، من بينها: انخفاض الطلب العالمي على الغاز، وتأخر إقرار القوانين التنظيمية في نيجيريا. وفي عام 2005م، تم تكليف شركة “بنسبن” بإعداد دراسة جدوى شاملة لمشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء، والتي شكَّلت حجر الأساس لهذا المشروع الطموح.
وبعد سنوات من الدراسات والتخطيط؛ تم اتخاذ القرار النهائي في عام 2009م بالمُضي قدمًا في تنفيذ المشروع، وذلك بعد توقيع مذكرة تفاهم بين الحكومات الثلاث والشركات المعنية، مما وضع المشروع على الطريق الصحيح لتحقيق أهدافه، إلا أن مشروع أنبوب الغاز واجه العديد من التحديات الأمنية والمالية حالت دون تنفيذه آنذاك.
تعرض المشروع لانتكاسة في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولكن تم تجديد النقاش حول المشروع خلال القمة الإفريقية عام 2016م. وتكررت الاجتماعات بين وزراء الطاقة في الدول الثلاث، لكن الاجتماع الذي عُقد في عام 2021م، شكّل منعطفًا كبيرًا في مسار المشروع؛ حيث تمكَّنت الدول الثلاث من التوصل إلى توافق حول الخطوات التالية، وأكدت نيجيريا على استعدادها لبدء المشروع بعد الانتهاء من الدراسات الفنية والمالية، مما أكد الأهمية الإستراتيجية التي يُوليها هذا البلد للمشروع، والذي من شأنه أن يُعزّز مكانة نيجيريا كمركز للطاقة في القارة الإفريقية.
تم وضع خارطة طريق واضحة لتنفيذ هذا المشروع الطموح الذي طال انتظاره في 28 يوليو 2022م؛ حيث تم الانتهاء من المرحلة التحضيرية لتنفيذ مشروع، مما يُمهّد الطريق لبدء العمل الفعلي في هذا المشروع الضخم.
خط أنابيب إستراتيجي لتوريد الغاز العالمي:
شهدت إفريقيا تحولًا كبيرًا في سياساتها الطاقة؛ حيث تتحرَّك من كونها مجرد مصدر للطاقة الأحفورية إلى قارة تسعى إلى الاستفادة من هذه الموارد لتعزيز نموّها الاقتصادي وتنويع صادراتها. ويُعدّ خطّ أنبوب الغاز الطبيعي فرصة تاريخية لتحويل إفريقيا إلى قوة طاقوية، واكتسب المشروع أهمية كبيرة مع تزايد الطلب العالمي على الغاز، خاصةً في ظل الأزمة الروسية الأوكرانية؛ حيث تسعى الدول الأوروبية جاهدة لتأمين مصادر بديلة للطاقة، وتقليل الاعتماد على الغاز الروسي.
يمثل خط أنابيب الغاز عبر الصحراء الكبرى خطوة كبيرة في التعاون بين إفريقيا وأوروبا في مجال الطاقة. وبفضل الاتفاقيات الجديدة، تعمل الجزائر ونيجيريا والنيجر على ترسيخ مكانتها كلاعبين رئيسيين في سوق الطاقة العالمية، مما يضمن إمدادات مستقرة وتنافسية من الغاز الطبيعي إلى أوروبا. وتؤكد هذه الشراكة على تصميم القارة الإفريقية على تعزيز التعاون الإقليمي، والاستفادة من الموارد الطبيعية المشتركة، وتعزيز دورها كمُزوّد موثوق به للطاقة في أوروبا؛ وذلك من خلال الاستفادة من ارتفاع الأسعار العالمية وزيادة إنتاجها وصادراتها من الغاز.
وإلى جانب ذلك، من المتوقع أن يُحفّز خط الأنابيب هذا استثمارات اقتصادية ضخمة، ويتيح فرص العمل، ويُسرّع وتيرة التصنيع في مختلف أنحاء إفريقيا. ومن خلال دعم الصناعات مثل توليد الكهرباء، وإنتاج الأسمدة، والبتروكيماويات، سوف يعمل خط الأنابيب كمُحفّز للتوسع الاقتصادي الأوسع نطاقًا. وسوف يعمل تطوير شبكات الكهرباء التي يستفيد منها ملايين الأفارقة على تعزيز مستويات المعيشة في مختلف أنحاء القارة.
يتجاوز مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء كونه مجرد مشروع طاقة، ليصبح مُحرِّكًا للتنمية الاقتصادية والتكامل الإقليمي في منطقة الساحل؛ حيث يُوفِّر فرصًا استثمارية جديدة؛ حيث يمكنه نقل خط أنابيب الغاز الطبيعي عبر الجزائر ما بين 20 إلى 30 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًّا عبر 2565 ميلاً من الأنابيب، خاصةً وأن الجزء الجزائري أكثر من نصف الطول الإجمالي. لذا، سوف يرسخ من مكانة الجزائر كمركز رئيسي لتوزيع الغاز في منطقة البحر الأبيض المتوسط؛ حيث سيفتح آفاقًا جديدة للاستثمار، ويُسهم في تعزيز التعاون الاقتصادي مع الدول الشريكة.
يُعدّ مشروع أنبوب الغاز منارة أمل للنيجر -وهي دولة غير ساحلية- للاستفادة من موقعها الجغرافي الإستراتيجي؛ حيث سيُمكّنها من تحقيق عوائد اقتصادية كبيرة من خلال الرسوم التي ستجنيها من عبور الغاز عبر أراضيها؛ حيث سيؤدي إلى خَلْق فُرَص عمل واعدة وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين.
بالنسبة لنيجيريا، أكبر اقتصاد في إفريقيا؛ فتمثل الصفقة فرصة تاريخية لنيجيريا للاستفادة من احتياطياتها الهائلة من الغاز الطبيعي، والتي ظلت غير مستغلة بالكامل؛ حيث سيُسهم المشروع في تطوير البنية التحتية للطاقة في البلاد وتعزيز اقتصادها. كما يُوفّر طريق تصدير جديد لغازها، مما يُقلّل من اعتمادها على الأسواق الآسيوية والأمريكية؛ حيث يتماشى هذا المشروع مع إستراتيجية نيجيريا الأوسع نطاقًا للتحول إلى اقتصاد قائم على الغاز؛ حيث تستفيد البلاد من الاستثمارات الضخمة التي ضخّتها في قطاع الطاقة لتعزيز قدرتها على التصدير.
كما يُسهم المشروع في تعزيز العلاقات مع الدول المستهلكة، وعلى رأسها الدول الأوروبية. ومن هذه التجربة، يمكن تطبيق نماذج مشابهة في مشاريع أخرى. ويتماشى هذا المشروع مع رؤية الاتحاد الإفريقي (أجندة 2063م) الرامية إلى تحقيق التنمية المستدامة في القارة؛ حيث يُسهم في استغلال الموارد الطبيعية بطريقة عادلة ومنصفة، بعيدًا عن بقايا النفوذ الاستعماري الذي لا يزال يؤثر في بعض البلدان.
يُمثل هذا المشروع نموذجًا يُحتذى به للتعاون الإقليمي في إفريقيا، فخط أنابيب الغاز عبر الصحراء الكبرى لا يمثل مجرد مشروع، بل خطوة ضخمة نحو التكامل الإفريقي؛ حيث أثبتت الدول الثلاث – الجزائر، نيجيريا والنيجر– قدرتها على تجاوز الخلافات الثنائية، وتوحيد الجهود من أجل تحقيق هدف إستراتيجي مشترك، مما يعكس قوة التضامن الإفريقي ويبشر بمستقبل واعد للتعاون الإقليمي في القارة.
البنية التحتية الأساسية للمشروع:
يمتد أنبوب الغاز العابر للصحراء على طول 4128 كيلو مترًا، منها 1037 كيلو مترًا داخل الأراضي النيجيرية، و841 كيلو مترًا في النيجر، و2310 كيلو مترات في الجزائر؛ حيث سيربط حقول الغاز النيجيرية (انطلاقًا من منطقة واري على نهر النيجر) بحقول الغاز الجزائرية، وبمجرد وصول الغاز إلى الجزائر، يمكن توجيهه إما عبر خط أنابيب ميدغاز وترانسميد تحت البحر الأبيض المتوسط لتلبية احتياجات الأسواق الأوروبية المتعطشة للغاز، والتي تحاول التخلص من الاعتماد الطويل على إمدادات الغاز الروسي، أو تحويله إلى غاز طبيعي مسال (LNG) لتصديره إلى أسواق عالمية أكثر تنوعًا.
مما يجعل نيجيريا عنصرًا أساسيًّا في هذا المشروع الإستراتيجي. وتُقدَّر تكلفة المشروع بحوالي 13 مليار دولار، وفقًا لتقديرات أُجريت عند إطلاقه في عام 2022م. ويُمكن أنْ يُسهم بقرابة 7٪ من الناتج المحلي الإجمالي لجمهورية النيجر وحدها.
الرهانات والتحديات:
على الرغم من إمكاناته الضخمة؛ يُواجه خط أنابيب الغاز عبر الصحراء الكبرى عددًا من التحديات التي تؤخر تحديد موعد نهائي لبدء التنفيذ، تتمثل في:
1- التحديات الأمنية المتعددة، رغم أن الاتفاقات تُشكّل خطوة كبيرة إلى الأمام، فإن التحديات لا تزال قائمة. فالمخاوف الأمنية، وخاصة في المناطق التي تعاني من التمرد وعدم الاستقرار السياسي، تُشكّل مخاطر تُهدّد الجدول الزمني للمشروع وتنفيذه، خاصة في منطقة دلتا النيجر التي تشهد اضطرابات أمنية وتهديدات مباشرة لأمن المشروع، مما قد يؤدي إلى تأخير تنفيذه وزيادة تكاليفه، الأمر الذي يتطلب وضع خطط أمنية شاملة لحماية البنية التحتية والعمالة لضمان استمرارية العمل وتنفيذ المشروع في الموعد المحدد.
2- التكاليف الباهظة، تواجه الدول الشريكة في المشروع تحديات كبيرة تتمثل في التكاليف المرتفعة للبنية الأساسية للمشروع (التي تُقدَّر بعدة مليارات من الدولارات)، التي سوف تتطلب التزامًا مستدامًا من جانب الحكومات والمستثمرين وأصحاب المصلحة الدوليين، وقد تؤخر إكماله، لذا يتعين على الدول الثلاث توفير التمويل اللازم والبنية التحتية المناسبة، وتجاوز العقبات الجغرافية والسياسية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن المنافسة الشديدة مع خط أنابيب الغاز بين نيجيريا والمغرب تضيف المزيد من الضغوط لتسريع المفاوضات والاستثمار، مما يستدعي تضافر الجهود لتجاوز هذه العقبات. لذا يجب على مديري المشاريع إيجاد حلول مُبتكَرة لضمان تحقيق كلا الهدفين، وإجراء دراسات متعمقة وتنسيقًا دقيقًا بين الدول الشريكة؛ لتحقيق التوازن بين السرعة في الإنجاز والالتزام بالميزانية المحددة.
3- التطورات الجيوسياسية، في ظل تصاعد التنافس الدولي على الموارد الإفريقية، يواجه المشروع تحديات خارجية عديدة، مثل عدم اليقين السياسي في بعض البلدان التي يمر بها، والتغيرات في سياسات الطاقة العالمية تواجه هذه المبادرة ضغوطًا سياسيةً من قوى تحاول عرقلة استقلال إفريقيا الطاقوي؛ إلا أن التزام الدول الثلاث بالمُضِيّ قدمًا يعكس إدراكها العميق بأن السيادة الطاقوية هي مفتاح التحرر الاقتصادي الحقيقي.
4- الضغوط الدولية، بينما تسعى أوروبا إلى تقليل اعتمادها على الوقود الأحفوري، والتخلص من جميع أنواع الهيدروكربونات في غضون سنوات؛ إلا أنها في الوقت نفسه تبحث عن مصادر بديلة للغاز الطبيعي في إفريقيا، مما يضع الدول الإفريقية في موقف صعب؛ حيث تُواجه تحديًا كبيرًا يتمثل في التوفيق بين مطالب المجتمع الدولي بالانتقال إلى الطاقة النظيفة وبين رغبتها في الاستفادة من مواردها الطبيعية لتمويل التنمية، خاصةً في ظل الضغوط التي تمارسها الدول الأوروبية التي تسعى إلى تأمين إمدادات الطاقة. ومع ذلك، يظل خبراء الطاقة وقادة الصناعة متفائلين بأن خطة الشراكة الإستراتيجية الإفريقية للغاز سوف تعمل على إطلاق العنان لإمكانات الغاز في إفريقيا وإعادة تشكيل ديناميكيات الطاقة في القارة.
الخاتمة:
رغم التقدم المُحرَز في المشروع، إلا أن الجدول الزمني التنفيذي لا يزال غير محدد بشكل نهائي. وبفضل السرية التي تُحيط بالاتفاقيات، دخَل المشروع مرحلة جديدة من الجدية؛ حيث تم حماية المعلومات الحساسة المتعلقة بالتمويل والتكاليف، مما يضمن استمرارية العمل دون أيّ عوائق، ويؤكد الالتزام بتنفيذ المشروع.
لكن يبقى السؤال؛ هل ستتمكن إفريقيا من اغتنام هذه الفرصة التاريخية وتحويل نفسها إلى قوة طاقة عالمية؟ الإجابة عن هذا السؤال تتوقف على نجاح مشاريع مثل هذا الأنبوب، وعلى قدرة القارة على تجاوز التحديات الأمنية والسياسية التي تواجهها، ولكنّ التوقعات واعدة. ومع تحديث دراسة الجدوى وتقدم العمل التمهيدي، سيتابع العالم عن كثب خروج هؤلاء العمالقة الثلاث منتصرين في هذا السباق الإستراتيجي.