لم يخترع المستوطنون الصهاينة سلاح التجويع للقضاء على أعدائهم. لقد استخدمت جيوش كثيرة في الماضي هذا السلاح لفرض الاستسلام على خصومهم. لكن يتميّز اليوم الصهاينة المتوحشّون بكونهم أولا، مستوطنون يسعون الى تهجير أهل فلسطين عن أرضهم، وكونهم ثانيا، يطبّقون تعاليم دينية، وفق فهمهم للدين، تحثهم على القتل حتى الأطفال والرضع، ويستمدون ثالثا، شرعية سلاحهم من المنظومة الدولية الغربية (الأوروبية والأميركية) التي استخدمته قبل قرن أو أقل من الزمن في صراعها مع شعوب العالم، لتأديبها والقضاء على تمرّدها وفرض هيمنتها.
استخدم الصهاينة اليوم سلاح التجويع ضد أهل قطاع غزة لكل هذه الأسباب: التهجير والقتل والقضاء على المقاومة.
وما يبثّه الإعلام الفلسطيني من مشاهد الجوع والعطش والمرض في القطاع منذ أكثر من خمسة شهور يشكّل اليوم صورة حقيقية لمأساة شعب يرزح تحت احتلال متوحش قرّر القضاء على من يواجه الظلم، من ناحية، وصمود اسطوري لا مثيل له في التاريخ لشعب يضحي بأطفاله وأبنائه من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، من ناحية ثانية.
التجويع من أجل الإبادة والتهجيرن
منذ اليوم الأول من حرب الإبادة الجماعية، استخدم العدو سلاح التجويع بطرق متعددة، حتى وصل عدد شهداء الجوع والجفاف الى 25 شهيدا (10/3) : منع الماء والطعام والدواء والكهرباء عن الفلسطينيين في القطاع، قصف وتجريف الأراضي الزراعية، وخاصة في الشمال، قصف وتدمير ما خزنته الجمعيات الإنسانية من مستلزمات حياتية لمساعدة السكان، بسبب حصار قاس دام 17 سنة، قصف وقتل المواشي والدواجن وتدمير المزارع والخيم الزراعية المتواجدة في أنحاء القطاع، كي لا يُترك أي شيء للمستهلك الفلسطيني، منع الصيادين من التوجه الى البحر للصيد بقصفهم وقتلهم، قصف وتدمير المنازل والمتاجر التي احتوت على بعض المواد الصالحة للطعام، سرقة هذه المواد أو إتلافها من قبل الجنود المتوحشين الذين دخلوا الى المنازل، قتل المواطنين المتجمّعين حول الشاحنات الداخلة الى القطاع، وأخيرا منع دخول الشاحنات المحملة بمواد غذائية وإطباق حصار قاتل على فلسطينيي قطاع غزة، بدعم من الولايات المتحدة وسائر الدول الغربية المتواطئة مع كيان العدو، وعجز المنظمات الدولية ودول العالم، وخاصة الدول العربية والإسلامية، عن فكّه، بسبب رضوخها للموقف الأميركي الرافض لوقف حرب الإبادة. فاستعاضت بعض الدول عن الحصار البري بمهزلة “الانزال الجوي” للمساعدات، رفضا للتصدي لقرار العدو الصهيو-أمريكي وبإيحاء منه.
لكن استخدام هذا السلاح القاتل اليوم ضد أهل قطاع غزة، من أجل تهجيرهم من أرضهم، يمكن اعتباره مواصلة لسياسة استعمارية متأصلة في عقلية الصهاينة، منذ زحفهم واستيلائهم على أرض فلسطين. لقد انتزعوا الأرض من الشعب الفلسطيني وجرّدوه من رزقه، إذ كانت فلسطين، كسائر بلاد المنطقة، أرض زراعية توفّر الطعام لأهلها، رغم المتاعب والقهر الذي عانى منه الفلاحون، قبل سرقة أراضيهم من قبل الصهاينة، بدعم الامبرطورية البريطانية، الحامية الأولى للاستيطان الصهيوني خلال احتلالها فلسطين (1920-1948).
للمرة الأولى منذ قرون، يشاهد العالم حرب التجويع من أجل إبادة شعب. لقد وصف مقرر الأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء، مايكل فخري، استخدام العدو لسلاح التجويع ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بأنه “إبادة جماعية”، مضيفا “لم نر قط مجتمعًا يموت جراء التجويع بهذه السرعة وبشكل كامل.. إننا نرى حاليًا أطفالًا في غزة يموتون بسبب سوء التغذية والعطش ولم يسبق لنا أن رأينا أطفالا يُدفعون بهذه السرعة إلى سوء التغذية في أي صراع عبر التاريخ الحديث”.
التجويع من أجل التهجير
فسرقة الأرض والمياه لصالح المستوطنات، التي تمت وتتم قانونيا في الكيان الاستعماري، هدفت الى قطع العلاقة بين الفلسطيني ومصادر رزقه، وإلحاقه بالكيان المحتل وإخضاعه لإرادته ومنعه من التحكّم بحياته واتكاله كليا على الانتاج الزراعي الاستيطاني. لم يفلح الداعون الى “الاقتصاد العصامي” في الداخل المحتل عام 1948، للتخلص من التبعية لمنتوجات كيان المستوطنين، من الإفلات من سيطرتهم، رغم المبادرات العديدة والمهمة لأفراد أو جمعيات وطنية حاولت وتحاول بناء علاقة مختلفة مع الأرض والمجتمع الوطني من جهة، ومع كيان العدو من جهة أخرى.
تمثل سرقة الأراضي في الضفة الغربية، من شمالها الى جنوبها، وقطع الأشجار المثمرة، وتحويل مساحات واسعة من الأراضي الى “محميات طبيعية” لمنع فلاحتها وزرعها، وسرقة المواشي أو قتلها، وتحويل مساحات من منطقة الأغوار الى “أراضي عسكرية” لمنع البدو من الدخول اليها للرعي، ومنع استصلاح الأراضي ومنع دخول المزارعين الى أرضهم المتواجدة خلف “الجدار الاستيطاني”، والتدخل، عبر المجتمع الدولي واتفاقيات باريس، بالإنتاج الزراعي الفلسطيني، لتدمير الإنتاج الخاص للاستهلاك المحلي واستبداله بالإنتاج الزراعي الخاص بالتصدير وتكريس التبعية لاقتصاد المستوطنين، يمثل كل ذلك طرق متكاملة لتطبيق سياسة التجويع والتركيع.لقد أشارت المنظمات الدولية، قبل حرب الإبادة على قطاع غزة، أن المواطنين في الضفة الغربية يعانون، وخاصة في المنطقة المصنفة “ج”، من الفقر وانخفاض “الأمن الغذائي”، بسبب سياسة المحتل، كما يعاني المقدسيون أيضا من ذلك، بعد سرقة أراضيهم وتدمير منازلهم وأحيائهم ومحاصرتهم بالمستوطنات.
التجويع من أجل القضاء على “التمرّد” (المقاومة)
فالسيطرة على الأرض والماء والإنتاج الزراعي مكّنت الاحتلال من رفع سلاح التجويع متى يشاء، وخاصة عندما يتمرّد الشعب ضد الهيمنة وينتفض ضد الاحتلال. لقد عانت بلدان كثيرة من الحصار والتجويع في الضفة الغربية، خلال السنوات الأخيرة، لأنها رفعت راية المقاومة، بعد أن تم تطبيق سياسة المانحين الدوليين في الضفة الغربية، أي استبدال الزراعة المحلية الصالحة للاستهلاك بالزراعة الخاصة للاستيراد. لم تتمكن البلدات المحاصرة من تلبية احتياجات أهلها، كما كانت تفعل بعض القرى خلال انتفاضة الحجارة (1987- 1993)، قبل اتفاقيات أوسلو وإقامة سلطة الحكم الذاتي، التي أعفت المحتل من مسؤولياته. ويمثل حصار غزة منذ 17 عاما دليلا واضحا على استخدام الجوع والمرض كسلاح لقمع التمرّد من قبل المستعمرين.
لقد استخدمت الدول الغربية هذا السلاح ضد الشعوب التي تم احتلال أرضها، مثل فرنسا ضد الشعب الجزائري أو الولايات المتحدة ضد الشعوب الهندية، عندما شنّت حرب إبادة الجواميس لقطع أرزاق الشعوب الهندية وجعلها تستسلم للغزاة (القرن التاسع عشر) وتنهي مقاومتها، أو عندما كانت تحرق المحاصيل الزراعية لتهجير القبائل من أراضيها وتركها للغزاة. وحديثا، عانت شعوب عربية (العراق، سوريا، اليمن) من سياسة التجويع التي تمارسها قوى استعمارية غربية، بمساعدة دول إقليمية، من أجل إنهاء حالة التمرد على الهيمنة الغربية.
لكن لا يمكن لسلاح التجويع ان يقضي على شعب مقاوم قرّر الصمود في أرضه والدفاع عن وطنه ودينه وتاريخه، ومؤمن بحقه الخالص بأرض فلسطين والمقدسات. سينقلب آجلا أم عاجلا هذا السلاح على مستخدميه وأعوانهم في العالم، كلما طالت معركة “طوفان الأقصى” وتوسّعت دائرتها وارتداداتها، ليظهر هذا الكيان المتوحّش على حقيقته: كيان استيطاني غربي عنصري يلخّص اليوم أبشع صور الظلم والوحشية في العالم.