وزع الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، في خروجه الإعلامي مع صحيفة “لوبينيون” الفرنسية، رسائل بلاده على الشركاء وعلى دول الجوار، لكن لا شيء يضمن ردودا إيجابية في المطلق، لأن عمق الأزمات التي تربط الجزائر ببعض الأطراف خلال السنوات الأخيرة تحتاج إلى أفعال ترسي عامل الثقة وترتب الأولويات؛ فتسوية الخلاف مع الفرنسيين ليست هي تعزيز التقارب مع الأميركيين، وحلحلة الأزمة مع المغرب وإعادة الاستقرار إلى منطقة الساحل ليستا التطبيع المشروط مع إسرائيل.
وإذ يتطلع المتابعون إلى طبيعة ونوعية الردود المنتظرة من المعنيين برسائل تبون، فإن الردود ذاتها جاءت سريعة ومتباينة من طرف فرنسا والولايات المتحدة، بينما لم يصدر أي تعليق في باماكو أو الرباط أو تل أبيب.
ورغم محاولته طمأنة النخب الحاكمة والفاعلة في قصر الإليزيه، إلا أنه لا شيء تحرك خارج مربع الصفر، بل جاء الإصرار على البقاء في داخله، بعدما أقدمت وزارة الداخلية الفرنسية على ترحيل مهاجر جزائري غير مرغوب فيه، ورفض الجزائر استلامه لشكها في هويته؛ وهو ما يوحي بأن بركة المياه التي تحركت بسرعة، سكنت بسرعة مماثلة، معلنة أن الأزمة بين البلدين تراوح مكانها.
لكن في المقابل كانت الحرارة متبادلة على خط الجزائر- واشنطن، فخلال ساعات قليلة من خروج الرئيس تبون الإعلامي في المنبر الفرنسي، أجرى الوزير المنتدب للدفاع الوطني الجنرال سعيد شنقريحة اتصالا مع رئيس لجنة رؤساء الأركان المشتركة الأميركية الجنرال تشارلز براون.
الاتصال جاء بعد أيام قليلة من التوقيع في الجزائر العاصمة على مذكرة التعاون العسكري بين البلدين، وتناول فيه الرجلان تعزيز التعاون العسكري الثنائي والملفات الإقليمية والدولية، وهو ما يوحي بأن رسائل الرئيس تبون في حواره مع صحيفة “لوبينيون” قد ساهمت في دعم السياق الإيجابي القائم بين بلاده وبين الولايات المتحدة.
وبين كرة ثلج تتضخم مع فرنسا وبوادر شراكة مع الولايات المتحدة تبقى الجزائر في محيط متوتر، فهي من الدول القليلة التي تتحفظ إلى حد الآن على التحول القائم في سوريا، رغم أن تبون أكد في حواره على أنه طرح التوسط بين نظام الأسد والمعارضة، وأنه كان يرفض المجازر البشرية في سوريا.
لكن فيما يسارع الجميع إلى مد جسور التواصل مع الإدارة الجديدة في دمشق، تتخلف الجزائر لأسباب غير معلومة، رغم أنها تملك أوراقا تاريخية واجتماعية مهمة في سوريا، ورغم أن حفيد عبدالقادر الجزائري، خلدون الحسني، قد مات في سجن صيدنايا، وقد حكم عليه نظام الأسد بالإعدام.
إقرأ أيضا : لماذا ساءت العلاقات الجزائرية الفرنسية إلى هذا الحد؟
وهذه رسائل تفتقد إلى المنسوب اللازم من الثقة المطلوبة، لإعادة صياغة الموقع الجزائري في الخارطة الإقليمية والدولية، وإذا كان التقارب اللافت مع الأميركيين مسألة مشجعة على تعزيز القدرة على إيجاد البدائل للشراكات التقليدية، كروسيا وفرنسا، التي باتت مصدر صداع، إلا أنها تبقى غير كافية لرسم صورة مرضية لجميع العيون، خاصة لدى دول المنطقة والجوار.
الجزائر لا يمكن أن تكون بعيدة عن سوريا، خاصة وأن البقاء لله بعد الأوطان والشعوب، أما الأنظمة الحاكمة الشمولية والعائلية فهي محكومة بالرحيل، وحتى الاعتراف بأن الوضع في شمال أفريقيا ليس طبيعيا وغير مرض بسبب الأزمة القائمة بين الجزائر والمغرب، فإن المشهد نفسه ينطبق على منطقة الساحل، وهذا كله في حاجة إلى خطاب ثقة يقيم الحجة على من يعمل على تعطيل نهضة المنطقة وتكاملها.
لأول مرة خلال السنوات الست التي يشغلها الرئيس تبون في قصر المرادية، تأتي مفردة “دولة إسرائيل”، بعد خطاب “الاحتلال الصهيوني” و”الكيان الإسرائيلي”، وحتى التطبيع الذي أعلنه بشرط إقامة الدولة الفلسطينية، يحتمل فرضية التمهيد، بما أن التطبيع في العالم العربي بدأ بهكذا مفردات وخطابات، كما يحتمل فرضية “إيلاج الجمل في سم الخياط”، التي رفعها البعض لتبرير الحجة التعجيزية للرئيس تبون.
رسالة تبون، من اختيار الصحيفة الفرنسية “لوبينيون”، كانت واضحة المعالم، وهي مخاطبة طبقة معينة من الشركاء، وجس نبض آخرين، في خطوة تستهدف توضيح موقف بلاده تجاه العديد من القضايا والملفات، لاسيما تلك التي تنطوي على أزمات أو فتور متبادل، لكن يبقى الانتباه منصبا على ردود الفعل والمواقف المقابلة، للحكم على الخروج الإعلامي للرجل.
الرئيس الجزائري الذي عبر عن احترامه للدستور والاكتفاء بولاية رئاسية ثانية فقط، ملزم الآن بأن يفكر في الخروج الآمن والمرن من قصر المرادية، وعلى رأس ذلك أن يغادر كرسي الرئاسة والبلد آمن ومطمئن على حاله، وأقل الأشياء هي تركه دون أزمات إقليمية أو دولية، لكي لا تكون عبئا إضافيا على من سيخلفه، ومنه بات من الضروري أن تتم إعادة البلاد إلى مكانتها ودورها الإقليمي والدولي بجهد دبلوماسي أكثر فاعلية وعقلانية.