بين الحسابات البراغماتية والمصالح الانتخابية، وضغط منظومة الفساد والسلاح المتمسكة بالسلطة لحماية مصالحها الفئوية الضيّقة، يواجه لبنان اختباراً مصيرياً خلال الأشهر المقبلة.
يتعامل بعض التغييريين مع المشهد من منظور براغماتي بحت، حيث يرون أن من يملك الأكثرية في الحكومة هو الذي يفرض قراراته، مع الحرص على تجنّب أي ثلث معطِّل، حتى وإن بقيت وزارة المالية تحت سيطرة الثنائي المذهبي، رغم ما قد تسبّبه من تعطيل وعرقلة للمسار الإصلاحي.
كذلك يسعى هذا النهج إلى تحقيق مكاسب محدودة عبر السيطرة على بعض الوزارات لتقديم خدمات انتخابية تعزز الحظوظ قبل انتخابات 2026، بينما المطلوب من قوى التغيير في البلاد العمل وفق رؤية تتعدى الحسابات الانتخابية الآنية – من دون إسقاطها من الحسابات – لأن هذه زواريب تتقنها المنظومة الحاكمة وتديرها بعقلية مافياوية لا يمكن – ولا تريد – القوى التغييرية أن تجاريها.
ضرورة تقديم إنجازات ملموسة قبل الانتخابات
الوقت الباقي حتى الانتخابات النيابية المقبلة قصير، وإن لم تتمكن القوى التغييرية والمعارضة من تحقيق نتائج ملموسة خلال ما تبقى من السنة، فإن المزاج الشعبي الذي جاء برئيس الحكومة الإصلاحي لن يكون في صالحهم. فالناس لا ينتخبون بناءً على الشعارات وحدها، بل على الإنجازات الفعلية.
وبناءً على ذلك، فإن الحد الأدنى المطلوب يتمثّل في إطلاق مسيرة إصلاحية تبدأ بقانون إصلاح القضاء في مجلس النواب، باعتباره حجر الزاوية في أي عملية تغيير حقيقية كما ترسي العدالة والمصالحة بين اللبنانيين، كما ينبغي العمل على استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بهدف التوصل إلى اتفاق إطار خلال الشهرين المقبلين كحد أقصى، وهو أمر يمكن تحقيقه إذا توافرت الإرادة السياسية.
لكن لا يكفي الاتفاق مع الصندوق، إذ يجب السير بالشروط التي سيفرضها، مثل قانون إعادة هيكلة المصارف، ومكافحة الإثراء غير المشروع بالإضافة إلى قوانين مكافحة الفساد الأخرى، وسنّ التشريعات المطلوبة لتصحيح المسار الاقتصادي والاجتماعي.
خلال هذه الفترة، من المحتمل أن تصل مساعدات من البنك الدولي وبعض الجهات المانحة العربية بقيمة مليار دولار، وهو مبلغ، رغم ضآلته أمام الاحتياجات، ينبغي التأكد من إنفاقه بطريقة شفافة وفعالة.
ومن الأولويات في هذا الصدد إعادة إعمار الجنوب أولاً، وكل ما طاله الاعتداء الإسرائيلي في باقي مناطق لبنان وخاصة بيروت والضاحية الجنوبية والبقاع، على الأقل من خلال إزالة الركام بطريقة صديقة للبيئة وفقاً للمرسوم الذي أصدرته وزارة البيئة أخيراً، وفتح الطرق، وإعادة تأهيل شبكات الكهرباء والمياه والإنترنت، وترميم ما يمكن ترميمه، بعيداً عن الزبائنية والمحسوبيات والمحاصصة.
إقرأ أيضا : هل سيقود القادة الجُدد لبنان نحو المسار الصحيح؟
محطة مفصلية قبل أواخر العام الجاري
خلال هذه السنة، يجب أن تكون القوانين المطلوبة وفق شروط صندوق النقد قد أُنجزت، بحيث يصبح بالإمكان الانتقال إلى المرحلة التالية: أي تنظيم مؤتمر دولي للمانحين، وهو الأمر الذي سبق أن وعدت به فرنسا، فضلاً عن استعداد الاشقاء العرب لتوفير الدعم المالي المطلوب. هذا المؤتمر سيكون محطة أساسية لتأمين مساعدات إضافية، لكنه لن يتحقق إلا إذا أثبت لبنان التزامه بالإصلاحات المطلوبة. وإذا تعثر هذا المسار، فستكون التداعيات السياسية قاسية، لأن فشل التغييريين والمعارضة في تحقيق إنجازات فعلية سيجعل الانتخابات المقبلة كارثية بالنسبة إليهم، ما يعني أن القوى التقليدية ستستعيد زمام المبادرة، وسينتهي الأمر بالتغييريين خارج المشهد السياسي.
تحدّيات أساسية أمام مسار الإصلاح
لكن تنفيذ هذه الأجندة الإصلاحية ليس بالأمر السهل، فهناك ثلاث عقبات رئيسية يجب التعامل معها بذكاء وحزم:
1. تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار بالكامل إن لم يتم تنفيذ الاتفاق بكل بنوده، بما في ذلك توحيد السلاح تحت كنف الدولة ومؤسساتها وترسيخ دولة القانون، فإن الأوضاع الأمنية قد تبقى غير مستقرة، ما يعوق أيّ تقدّم اقتصادي وسياسي. كما أن الجهات العربية والدولية لن تكترث لمساعدة لبنان للخروج من محنته، وبالتالي فإن التحدي الأول هو ضمان تطبيق الاتفاق بطريقة تحفظ الاستقرار وتسمح ببدء عملية إعادة الإعمار واستقطاب المساعدات الدولية وضمان انسحاب إسرائيلي كامل وتوفير الأمان والأمل لأهل الجنوب بضمانة القوى الشرعية والمجتمع الدولي.
2. التصدّي للوبي المصارف داخل مجلس النواب القطاع المصرفي في لبنان ليس مجرد قطاع اقتصادي، بل هو قوة سياسية نافذة قادرة على تعطيل أي إصلاح يهدد مصالحها. وبالتالي، فإن تمرير القوانين المطلوبة، مثل إعادة هيكلة المصارف وقوانين مكافحة الفساد ومعالجة مسألة أموال المودعين، لن يكون سهلاً، خاصة أن بعض القوى السياسية قد تتعاون مع هذا اللوبي لإفشال الإصلاحات أو تأخيرها إلى ما بعد الانتخابات، ما يفقد القوى التغييرية أيّ رصيد سياسي يمكنها استثماره.
3. التعيينات في المراكز الأساسية المالية والإدارية انطلاقاً من تعيين حاكم مصرف لبنان وقائد الجيش والقيادات الأمنية والقضائية وملء المراكز الشاغرة في الإدارات العامة، مع ضرورة إعادة هيكلتها وتعيين الهيئات الناظمة للقطاعات الاساسية وتفعيلها للمساهمة في تنفيذ البرامج والسياسات والسهر على حقوق المواطنين بعيداً عن المحاصصة المذهبية والزبائنية.
مع احتمال أن تتعاون القوى التقليدية والمذهبية ولوبي المصارف لإفشال مسيرة العهد الإصلاحية، وبالتالي الإبقاء على الأوضاع كما هي، حفاظاً على مصالحها الضيقة والأنانية.
هل الحلّ في الصلاحيات التشريعية؟
أمام هذه العقبات، قد يكون من الضروري تشكيل حكومة إصلاحية بعيدة عن المحاصصة المذهبية والمناطقية، تتكوّن من خبراء وكفاءات وأصحاب تجارب، وحصول الحكومة على صلاحيات تشريعية استثنائية تتيح لها تجاوز العرقلة في مجلس النواب، ولو مؤقتاً. لكن هذا الأمر يصطدم بحاجز أساسي: هل ستقبل القوى التقليدية واللوبي المصرفي بذلك، أم أن الأمر يتطلب ضغطاً دولياً وعقوبات محتملة قد تدفعها إلى التنازل؟
خاتمة: سباق مع الزمن
المرحلة المقبلة ستكون اختباراً حقيقياً للقوى التغييرية والمعارضة. النجاح في إطلاق مسيرة الإصلاحات المطلوبة كما جاء في خطاب القسم خلال الأشهر المقبلة سيمنحهم فرصة لتعزيز مواقعها في الانتخابات المقبلة، أما الفشل فسيعيد إنتاج المنظومة التقليدية بكل فسادها وسوء إدارتها. التحدي كبير، والوقت ضيق، لكن إذا وُجدت الإرادة السياسية، فإن التغيير لا يزال ممكناً.
إن قوى التغيير التي تسعى إلى الإصلاح والتقدم بحاجة إلى التكتل والعمل المشترك لدعم النهج الإصلاحي والتغييري الذي وعد به رئيس الجمهورية في خطاب القسم وتمسّك به الرئيس المكلف في كلمته المقتضبة يوم قبوله التكليف، ذلك من أجل تحقيق أهدافها مستفيدة من الظرف الاقليمي والدولي وميزان القوى الداخلي. فبدون وحدة الصف والتنسيق الفعّال، ستظل هذه القوى مشتتة، ما يسهل على القوى التقليدية المسيطرة إجهاض أي محاولات إصلاحية. التحالفات المبنية على رؤية واضحة وبرنامج عمل واقعي هي السبيل لفرض الخيارات الإصلاحية ومواجهة التحديات السياسية والاقتصادية.
المصدر: النهار