اندفاع الحكومة المتأخر إلى هيكلة الخطوط الجوية التونسية، التي كانت ذات يوم جوهرة وطنية، قد يكون معقدا بعض الشيء، نظرا للنماذج السابقة في ترميم الشركات الأخرى المملوكة للدولة. لم يقدر أحد أبدا على وضعها في السكة الصحيحة. كان التضارب في الخطط دائما سيد الموقف، وأصبحت معه عمليات الإصلاح المتكررة ضمن الوقت الضائع.
من المبكر الحكم على نجاح الدولة في ذلك، بالنظر إلى الإصرار في التقوقع ضمن حلول بدائية مع الانغلاق في جعل الشركة تقلع إلى آفاق جديدة. بشكل عام، فإن أي خطة في هذا الاتجاه تحتاج إلى الربط بين ثلاثة محددات رئيسية، بدءا بحملة تسريح واسعة للموظفين، مرورا ببيع حصة لمستثمر إستراتيجي، ووصولا إلى تعزيز الأسطول، مع عدم التغافل عن زيادة المسارات، والأهم الجودة.
ليس سرا القول إن الخطوط التونسية تمر منذ 2011 بمرحلة انتكاسة كبيرة، وعلى كافة المستويات، سواء الإدارية أو المالية أو حتى التنافسية. لا يكفي تحسن أرقام أعمالها في سنة أو سنتين للحكم بأنها تتعافى. لا تقاس الأمور بتلك الطريقة. حالة عدم الانضباط في التسيير، والتذمر من تأخير الرحلات، وسوء الخدمات التي تعج الشبكات الاجتماعية بأمثلة منها، وامتعاض الرئيس قيس سعيد نفسه من فسادها، تعطينا فكرة عن حجم الفوضى والتحدي الصعب لترميمها.
أي شركة طيران، وحتى تستطيع تحقيق الأهداف، عليها أولا مواءمة القوى العاملة بحجم الأسطول. بالنسبة للخطوط التونسية، فإنها بعيدة عن المعيار العالمي الذي يربط تشغيل طائرة واحدة بوجود 80 موظفا في سلسلة الخدمة ككل. بتفحص بياناتها نجد أنها تعتمد على 29 طائرة، بينما لديها 2982 موظفا، ما يعني أنها تحتاج إلى تسريح 662 موظفا للضغط على النفقات، للبدء في تعديل البوصلة.
قد يرتبط ذلك بتغيير الهرم الإداري ولأنها شركة مدرجة في بورصة تونس، ولا تحقق من ذلك الكثير من الأرباح، فإن الغاية تحسين كفاءتها، وهي فكرة لطالما أتبناها وبات خبراء يتبنونها أيضا، بينما المسؤولون يرفضون، وفي مقدمتهم الرئيس سعيد، بتعلة أنها مكتسب وطني ضمن خطوط حمر ومحرم الاقتراب منها. عقلية كهذه لا تساعد في تحقيق اختراق ولو جزئي من مشروع الترميم المنشود.
الأمر الثاني، لا يقل أهمية، وهو فتح باب الخصخصة أمام الشركة. لك أن تتخيل أن لتونس تجربة وحيدة ناجحة في خصخصة شركات الدولة، ومن أكثرها استقرارا، وهي اتصالات تونس، ففي سنة 2006 ضخت شركة الإمارات للاتصالات، إحدى أذرع مجموعة دبي القابضة، استثمارات في الشركة الحكومية قبل أن تبيع حصتها المقدرة بنحو 35 في المئة إلى مجموعة أبراج الإماراتية في 2017.
ماذا ستخسر الدولة لو فكرت بجدية وأقدمت على خطوة كهذه مع شركتها للطيران؟ فرسم ملامح الإنقاذ ومن ثم تحقيق الاستمرارية في تحسين الأداء المالي والتجاري يتطلبان رؤية إستراتيجية طويلة الأجل، وأيضا رؤية ابتكارية. إقناع المستثمرين والمساهمين بالتحولات المستمرة، ورفع مستوى الشفافية سيعززان الثقة ويسهمان في نجاح هذه التحسينات.
إقرأ أيضا : الأطباء في تونس يستحقون تقديرا شعبيا وحكوميا
لقد أثبتت الشركة، ومنذ توقيع اتفاقية السماوات المفتوحة في 2017، والتي لم تُفعّل حتى الآن لأسباب غير مفهومة، أنها لم تستفد من أفضلية استغلال مركز عملياتها في مطار قرطاج الدولي. فما بالك لو دخلت الاتفاقية حيز النفاذ. هل فكر المسؤولون في ذلك؟
لم يعد هناك متسع من الوقت للإنقاذ. الضرورة تقتضي اليوم التركيز على تحسين الإدارة المالية، بحيث تظل الشركة قادرة على التأقلم مع الأزمات الطارئة. الشيء الحاسم في الهيكلة، يتوقف على بذل جهد مضاعف في تطوير خطط عمل أكثر مرونة وانضباطا لضمان ثبات العمليات وعدم التأثير على الإيرادات.
دعك من هذا، وانظر إلى حجم الأسطول. هل هو كاف للمنافسة؟ لا يبدو ذلك، فباستثناء الخطوط الجزائرية التي لا يختلف أداؤها كثيرا عن الخطوط التونسية، تبدو شركات إقليمية مثل الخطوط الملكية المغربية، التي تنوي امتلاك 200 طائرة في غضون عقد، ومصر للطيران التي تستهدف 125 طائرة من 65 حاليا، في طريق تجسيد خططها بصرف النظر عن تباين الميزانيات المخصصة لذلك.
ربما لا تجوز المقارنة بين شركة حكومية وأخرى خاصة لمعرفة حجم الاختلافات، لكن الغرق في التفاصيل أحيانا مفيد حتى نفهم أكثر معاناة الخطوط التونسية. في الشرق الأوسط ثمة 3 شركات منخفضة التكلفة نشاطها قوي بفضل أسطولها، ففلاي دبي لديها 88 طائرة، والعربية للطيران، ومقرها الشارقة، تملك 68 طائرة، وطيران ناس السعودية لديها 61 طائرة. أي أن أقل واحدة منها لديها أكثر من ضعف أسطول الخطوط التونسية.
هذه الأرقام هي مجرد لمحة. هناك الكثير من المؤشرات، التي يجب على المسؤولين وضعها في الحسبان لكسر حالة التخلف في النقل الجوي و”الغزالة” تحديدا، ألا وهي تقييم الخدمات، سواء على المسارات التجارية نحو المدن حول العالم، أو في ما يتعلق بوحدة الشحن.
ثم أن الترويج التقليدي لم يعد ذا جدوى. عليهم التفكير بعقلية أكثر انفتاحا. ربما تتطلب الخطوط التونسية الاستفادة من عقد شراكات مع شركات طيران أخرى، كالمشاركة بالرمز، مثلا، أو زيادة الرحلات إلى وجهات جديدة لم تكن تصلها من قبل.
إن ضمان ولاء المسافرين باستمرار قد لا يتحقق ما دامت الشركة قابعة في ورشة الصيانة، ولا ندري متى ستخرج منها، ويبدو أن الدولة لا تدرك أن المستهلكين ملوك مهما تفاوت ما يدفعونه لإشباع تجربتهم.. ورغباتهم.