من نتائج المعارك والحروب التي خاضتها إسرائيل على جبهتي قطاع غزة ولبنان، حرب السابع من اكتوبر2023، قالت بشكل واضح إن إسرائيل استخدمت فيها كل فائض قوتها العسكرية والتسليحية والتدميرية، وما رافقها من “توحش” و”تغول” غير مسبوقين، حيث عمدت في لبنان إلى تدمير الحاضنة الشعبية للمقاومة “عقيدة الضاحية”، أما في قطاع غزة، فقد استخدمت “عقيدة جباليا”، إبادة الحاضنة الشعبية، هاتان العقيدتان اللتان تعمل إسرائيل على تطبيقهما في حربها العدوانية على مدن وبلدات شمال الضفة الغربية ومخيماتها.
اقرأ أيضًا.. التجاذب بين اليهودية والصهيونية الدينية واهتزاز حكومة نتنياهو
نتائج هاتين المعركتين قالت بشكل واضح إن إسرائيل، رغم كل ما امتلكته من أسلحة دمار، وتكنولوجيا متطورة، وذكاء اصطناعي، وشبكة استخبارية وتجسسية متطورتة، ودعم عسكري وأمني واستخباري ومالي أمريكي- وأوروبي غربي، لم تتمكن من تحقيق ما سماه نتنياهو بالنصر الساحق، ولا تحقيق الأهداف الاستراتيجية للحرب على الجبهتين، رغم أن إسرائيل نجحت في توجيه ضربات مؤلمة وكبيرة لحزب الله والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وفي قلبها حماس، ولكن أهداف الحرب الكبرى الأستراتيجية المتطرفة والموجهة للداخل الإسرائيلي، لم تتحقق، وتامشاهد التي تنقل من قطاع غزة، في عمليات التبادل للأسرى في دفعاتها الاربع من المرحلة الأولى، أحدثت حالة من الصدمة والإرباك في داخل إسرائيل، صدمة عرضت حكومة نتنياهو لمخاطر السقوط من داخلها، حيث استقال بن غفير من الحكومة والائتلاف، هو ووزراء حزبه، وقال إن ما حصل في عمليات تسليم الأسرى، والمشاهد والصور المنقولة، قالت بشكل واضح من هو المنتصر ومن هو المهزوم، وأننا لم نحقق نصراً مطلقاً بلغة نتنياهو، بل أن ما تحقق فشل كبير وذريع وشامل، وهو لا يشكل فقط خطراً على الأمن القومي لإسرائيل، بل هو وصمة عار وطني لكل مواطني الدولة، وكذلك وسائل الإعلام والمحللون والمعلقون الإعلاميون والعسكريون والأمنيون، قالوا أي نصر مطلق تحقق ؟ وماذا كان يفعل جيشنا طوال 15 شهراً، في ظل الظهور والتواجد والحضور العسكري والمدني الكثيف للمقاومة الفلسطينية، بكتائبها المختلفة، وفي ظل ترتيب وتنظيم وانتشار على درجة عالية من الدقة والتنظيم، لا تستطيع القيام بها سوى دولة متطورة؟
ولذلك ما جرى هو إخفاق كبير، يضاف إلى الإخفاق العسكري والأمني في السابع من اكتوبر 2023، وفي النهاية اضطررنا لقبول اتفاق لتبادل الأسرى، يقود إلى وقف إطلاق نار دائم، وانسحاب إسرائيلي شامل من القطاع، وعودة إلى التساكن مع قوى المقاومة على حدود قطاع غزة. اتفاق كان يمكن إنجازه قبل تسعة شهور، وتلافي المزيد من الخسائر في الجنود والضباط والمعدات العسكرية والاقتصاد والروح المعنوية .
المشاهد والصور المنقولة في عمليات التبادل للأسرى التي تقول بانتصار المقاومة في حرب الصورة والتفوق في الجانب الأخلاقي، تؤكد أن حركة حماس لم تختف عن المشهد لا عسكرياً ولا مدنياً، بل هي حاضرة عسكرياً وشعبياً وجماهيرياً وسياسياً، وباعتراف قادة إسرائيليين عسكريين وأمنيين، بأنها الجهة الوحيدة القادرة على حكم قطاع غزة.
أما على الجبهة اللبنانية، فرغم الخسارات الثقيلة التي لحقت بحزب الله، والتي طالت أمينه العام نصرالله ونائبه هاشم صفي الدين، لكنها لم تنجح في تفكيك الحزب لا سياسياً ولا عسكرياً ولا ميدانياً، ولم يفقد السيطرة على منظومة القيادة والسيطرة والتحكم، وجهازه العسكري العامل في الميدان بقيادته، وجه ضربات قاسية لإسرائيل، منها استهداف قاعدة لواء جولاني “النخبة” بمسيّرة انقضاضية بالقرب من حيفا نتج عنها عشرات القتلى والجرحى من الجنود والضباط، وكذلك مسيرة انقضاضية أخرى استهدفت منزل نتنياهو في مدينة قيساريا، وأصابت شباك غرفة نومه.
إسرائيل قبلت بوقف نار اضطراري في لبنان، ولم تتمكن من فرض شروطها لوقف إطلاق النار، وقبلت بالقرار 1701، محققة امتيازات في هذا القرار، حيث اللجنة المشكلة والمشرفة على تطبيق القرار، هي من لون سياسي واحد، أمريكا وفرنسا وإسرائيل واليونفيل الدولي، بالإضافة إلى الدولة اللبنانية، وهذا القرار أممي، يفترض أن يتم طرحه على مجلس الأمن الدولي الذي أصدره، لكي تتشكل لجنة جديدة تشرف على تطبيقه، وتشارك فيها دول أخرى.
الحرب على الجبهتين، ضربت المشروع الاستعماري في ركيزتين من ركائز قوته، القدرة على مواصلة الاحتلال، والقدرة على التهجير، وكذلك هذه الحرب قضت على آمال المتطرفين والتلمودين والتوراتيين في تحقيق حلمهم، بإقامة ما تعرف بـ”إسرائيل العظمى” أو”إسرائيل” العظيمة.
إسرائيل الآن امام حقيقتين استراتيجيتين، الأولى عدم القدرة على العودة إلى حرب شاملة، في ظل ما تعيشه دولة الاحتلال من صراعات وانقسامات وأزمات تتصاعد، وتنذر بفرط عقد حكومة نتنياهو من داخلها، وخطر تفكك المؤسسة العسكرية، على ضوء ما تشهده من “مجزرة” استقالات على خلفية الفشل العسكري والأمني في السابع من أكتوبر، ولذلك وجدنا أن أمريكا تسعى من أجل أن تعقد صفقة شاملة، يكون مرتكزها الأساس التطبيع بين إسرائيل والسعودية، حتى تتمكن من أن تصبح مكوناً جغرافياً “شرعياً” من مكونات جغرافيا المنطقة، والذهاب نحو حل سياسي ينقذ إسرائيل من ذاتها وأزماتها، يقوم على أساس إقامة دولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين التاريخية، في حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس، وحق العودة للاجئين وفق القرار الأممي 194، ولكن هذا الحل سيصطدم بسيطرة قوى اليمين والتطرف على الحكم والحكومة والقرار السياسي، حيث دولة الاحتلال بكل مكوناتها علمانية ودينية تزداد تطرفاً، وهناك تماه بين المجتمع الإسرائيلي والمؤسسة الحاكمة، وبات يمسك بـ”عنق” القرار السياسي، من اغتالوا رابين في العام 1995، وبن غفير وسموتريتش إفرازات لذلك.
لذلك، وفي ظل انسداد أفق أي حل سياسي، وعدم وجود أي استعداد إسرائيلي لملاقاة هذا المشروع السياسي، وأيضاً عدم القدرة على العودة للحرب الشاملة على جبهتي قطاع غزة والجنوب اللبناني، وخوف وهاجس نتنياهو، بأن توقف الحرب على قطاع غزة، وانسحابه الشامل منها، قد يدفع نحو مقامرته بمستقبله السياسي والشخصي، في ظل إمساك بن غفير وسموتريتش بـ”عنق” قراره السياسي، والتهديد المستمر بتفجير حكومته من داخلها، ولذلك سيسعى إلى أن يستمر في حروبه العدوانية على قطاع غزة وجنوب لبنان، ضمن ما يعرف بنظرية “المعركة بين حربين”، وفرض معادلات ردعية جديدة، فهل سينجح نتنياهو في تحقيق ذلك، في ظل دعم ومشاركة أمريكية لهذا المشروع؟