فى 29 فبراير، ألقى الرئيس الروسى فلاديمير بوتين رسالة على أعضاء الجمعية الفيدرالية الروسية، وكان الخطاب الذى استمر ساعتين، والذى يُعد أحد أهم الأحداث فى البلاد التى تتكرر كل عام، منصة انطلاق لحملة انتخاب الرئيس الحالى، الذى من المتوقع أن يستمر فى منصبه بعد الانتخابات فى مارس حتى عام 2030.
ومن الواضح عدم وجود منافس حقيقى لبوتين من بين المرشحين المعلنين، فى ظل تمتعه بدعم الأغلبية المطلقة من المواطنين الروس. وقبل خطابه، وقّع بوتين أيضًا على عدد من القوانين المهمة، وأدلى بكثير من التصريحات، التى ضُمِّنَت أيضًا فى برنامج الخطط المستقبلية للبرنامج السياسى والاقتصادى والاجتماعى الداخلى، من بينها استراتيجية التطوير العلمى والتكنولوجى لروسيا، وخطط لزيادة رواتب المعلمين، وتبسيط وتوسيع عدد من القوانين القائمة التى قُبِلَت على نحو إيجابى فى المجتمع الروسى، كما عُقدت اجتماعات للجان مجلس الدولة للعلوم والنقل والطاقة.
الرسالة نفسها- كما أشار الرئيس- لا تغطى فقط فترة السنوات الست المقبلة، ولكنها تنطوى على آفاق أطول بكثير؛ لأنها تتعلق بمستقبل كل من الشعب والدولة.
بالطبع، تجدر الإشارة إلى أنه عشية هذه الرسالة، حدثت تغييرات مهمة على الجبهة؛ فقد استولت القوات الروسية على مدينة أفدييفكا وكثير من المدن الأخرى التى كانت تحت سيطرة الجيش الأوكرانى فى السابق. فى الواقع، اختُرِقَ خط الدفاع المحصن، وهو ما قد يؤدى إلى مزيد من تفكك النظام الأوكرانى، وسيؤدى إلى ما يسمى نهاية اللعبة، أى نقطة تحول جذرية فى الحرب، وهذا له معنى رمزى مهم، حيث يُنظر إليه فى الخارج باعتباره انتصارًا آخر لروسيا، لم تتمكن جميع العقوبات الغربية، والمساعدات العسكرية لأوكرانيا، بما فى ذلك المستشارون العسكريون والمرتزقة، من كسره.
وأشار فلاديمير بوتين فى رسالته إلى أن العسكريين الروس الذين يشاركون فى «العملية العسكرية الخاصة» هم النخبة الحقيقية والمستقبلية للبلاد، والذين سيشغلون قريبًا مناصب رئيسة فى نظام الإدارة العامة، وستُهيأ ظروف إضافية لهم، وتُوفَّر المزايا الاجتماعية اللازمة لهم. وشدد الرئيس على أن: «النخبة هم أولئك الذين يخدمون روسيا، ولم يملأوا جيوبهم بالأموال المنهوبة فى حقبة التسعينيات»، وهذا يدل على التناوب المستمر لموظفى الإدارة، الذين أثبتوا عمليًّا موقفهم الوطنى.
وفى حديثه المباشر عن «العملية العسكرية الخاصة» الجارية، أشار الرئيس إلى أن أهدافها ستتحقق، وأن الجيش الروسى: «يمسك بزمام المبادرة بثبات، ويتقدم بثقة فى عدد من مناطق العمليات»، وقدّم تقييمًا جيوسياسيًّا لهذه العملية. قال فلاديمير بوتين: «إن ما يسمى بالغرب بعاداته الاستعمارية يسعى إلى كبح تطور روسيا؛ لأنه بدلًا من روسيا الكبرى المستقلة، يحتاجون إلى روسيا تابعة، وباهتة، وتحتضر، حيث يمكنهم أن يفعلوا ما يريدون»، لكن الدول الغربية لن تتمكن من تحقيق ذلك، ومن أسباب ذلك الأسلحة الجديدة التى دخلت الخدمة بالفعل، واستُخدمت.
إذا تحدثنا عن خطط محددة، فسيُخفض العبء الضريبى على الفقراء، ولكن ستُزاد الضرائب على الأغنياء، أى أنه سيُلغى النموذج الليبرالى للاقتصاد، وستُخصص عشرات المليارات لتطوير البنية التحتية للنقل، والطرق، والمدارس، والتعليم العالى، والإسكان، والخدمات المجتمعية، وهو ما يوضح ما يتمتع به الاقتصاد الروسى من هامش أمان كبير. يُضاف إلى ذلك تطوير صناعة الفضاء، (إطلاق عدد كبير من الأقمار الصناعية)، ومزيد من تحديد المجمع الصناعى العسكرى، (من المقرر عرض أسلحة جديدة فى المستقبل القريب جدًّا، وهو ما يُعد أيضًا إشارة جيدة لدول الناتو)، فضلًا عن التطور العلمى فى قطاع الأبحاث، بما فى ذلك تطوير أجهزة الكمبيوتر العملاقة (بحلول عام 2030، ينبغى زيادة القدرة الإجمالية لأجهزة الكمبيوتر العملاقة المحلية بما لا يقل عن 10 مرات). وقيل أيضًا إن هناك برامج خاصة عن تطوير الذكاء الاصطناعى. وفى إطار المشروع الوطنى «اقتصاد البيانات»، طالب الرئيس بإنشاء منصات رقمية فى جميع القطاعات الرئيسة للاقتصاد بحلول عام 2030، وسيُخصص ما يقرب من ثمانية مليارات دولار لهذا الغرض على مدى السنوات الست المقبلة.
تجدر الإشارة إلى كثير من المشروعات ذات الأهمية الوطنية التى تحدث عنها الرئيس:
المشروع الوطنى «الأسرة»، الذى يهدف إلى زيادة معدل المواليد فى البلاد. وكجزء من المشروع، سيُخصص ما لا يقل عن 75 مليار روبل للمناطق التى يكون فيها معدل المواليد أقل من المتوسط حتى عام 2030، كما سيُمدد برنامج الرهن العقارى العائلى حتى عام 2030.
المشروع الوطنى «حياة طويلة ونشيطة»، الذى يهدف إلى زيادة متوسط العمر المتوقع فى روسيا من 73 عامًا حاليًا إلى 78 عامًا بحلول عام 2030.
المشروع الوطنى «شباب روسيا»، الذى يقدم على أنه «مشروع حول المستقبل ومن أجل مستقبل بلدنا». وقال بوتين خلال الرسالة: «إنه فى إطار هذا المشروع الوطنى، سيُقدم الدعم للمعلمين والموجهين»؛ لذلك اقترح الرئيس تقديم دفعة فيدرالية خاصة بدءًا من 1 سبتمبر 2024 لجميع المستشارين ومديرى التعليم فى المدارس والكليات، كما ستتم أيضًا زيادة المدفوعات لفئات معينة من معلمى الصفوف.
المشروع الوطنى «الموظفون»، الهادف إلى تعزيز الاتصال على جميع مستويات التعليم، من المدرسة إلى مؤسسات التعليم العالى.
مكافحة الفقر، بوصفها واحدة من أهم الأولويات. ومع أن روسيا- بحسب الإحصاءات- ليست دولة ذات مؤشرات عالية فيما يتعلق بهذه المشكلة، (نحو 9% من سكان البلاد)، فقد وضع الرئيس هدفًا يتمثل فى خفض معدل الفقر بحلول عام 2030 إلى أقل من 7%، وأُعلِنَ زيادة الحد الأدنى للأجور بنحو 40% بحلول عام 2030، وهو أمر مهم بالتأكيد، ليس فقط للفقراء، ولكن فى جميع أنحاء البلاد بشكل عام. الدعم غير المباشر للعائلات سيكون عبارة عن زيادة فى التخفيضات الضريبية للأطفال المولودين، وبالإضافة إلى ذلك، سيُمدد برنامج دفع رأسمال الأمومة حتى عام 2030.
أخيرًا، سيُشطب ثلثا ديون ميزانية الأقاليم، وستُستخدم الأموال المدخرة فى مشروعات الاستثمار والبنية التحتية.
ونتيجة لذلك، يمكن وصف الأفكار التى تم التعبير عنها فى الرسالة بأنها تدعم مزيدًا من السيادة المتسارعة لروسيا فى جميع الاتجاهات- من السياسة الخارجية، إلى مختلف قطاعات الاقتصاد، والعلوم، والتعليم، والثقافة، وهو يعنى- بطبيعة الحال- استحالة العودة إلى سياسات الأعوام الماضية، التى كانت ذات طبيعة شبه ليبرالية، وكانت مندمجة- بطريقة ما- مع العالم الغربى، وهو ما يشير إلى أن عملية الانفصال ستظل مستمرة، مع أن هذا لا يعنى العزلة الذاتية. إن روسيا تطور وتستمر فى تطوير علاقاتها مع دول إفريقيا، وآسيا، والعالم الإسلامى، وأمريكا اللاتينية، ومختلف الاتحادات والمنظمات الإقليمية. إن سيادة روسيا وتعزيزها سيكونان مفيدين لجميع أصدقائها.
الخاتمة
يبقى السؤال هو عن مدى تنفيذ تعليمات الرئيس، وتحقيق الأهداف المرجوة. مع الأخذ فى الحسبان أنه أُجريت تغييرات فى كادر الموظفين فى عدد من الوزارات والإدارات بعد بدء «العملية العسكرية الخاصة» فى أوكرانيا، فسيكون القيام بذلك أسهل من ذى قبل، عندما خرّبَ عملاء غربيون داخل الحكومة الروسية بعض مراسيم الرئيس علنًا. وكما ذكرنا سابقًا، سيضطلع بدور مهم فى تنفيذ المهام المعينة أفراد جدد نالوا مناصبهم من خلال تضحياتهم وخبراتهم القتالية، ولديهم دوافع أيديولوجية، (وهو أمر مهم جدًّا)، للتنمية المستقبلية للبلاد، وإنشاء روابط إضافية داخل كثير من شعوب الاتحاد الروسى
ما ورد فى المقال يعبر عن رأى الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأى هيئة التحرير.