أحد أهم التساؤلات التي تدور في أروقة الشرق الأوسط حاليا هو ما يتعلق بمدى تأثر النفوذ الإيراني بما حدث من تطورات متسارعة على الصعيد الإقليمي في الآونة الأخيرة، وهل أدت الضربات القوية غير المسبوقة التي وُجهت للأذرع الإيرانية الإرهابية (حزب الله اللبناني، وحركة حماس، وانهيار النظام السوري) فضلا عن الرسائل التي وجهتها دولة إسرائيل بشكل مباشر لإيران نفسها، إلى تراجع النفوذ الإيراني، أو بالأحرى وقف قطار المشروع التوسعي الإيراني الذي كان يعمل تحت شعار “محور المقاومة”؟
صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية نقلت مؤخرا أن “جنرالا إيرانيا بارزا اعترف لأول مرة بتعرض بلاده لهزيمة إستراتيجية في سوريا”، وأضافت “قدم الجنرال الإيراني بهروز إسباتي، في خطاب صريح خلال الأسبوع الماضي، رؤية مغايرة للخطاب الرسمي حول مستقبل إيران في سوريا، معترفا بتعرض طهران لهزيمة إستراتيجية كبيرة، ولكنها ستواصل العمل في البلاد”. ونقلت الصحيفة عن الجنرال اعترافه “لقد تعرضنا لهزيمة ثقيلة، وكانت ضربة قاصمة لنا”.
لو ابتعدنا عن التفسيرات النظرية واتخذنا من التطورات الميدانية منطلقا في تحليل ما يحدث، لوجدنا أن إيران تتجه فعليا لتغيير إستراتيجية الحرب بالوكالة، وتتجه تدريجيا للاستعداد لخوض صراعات ومواجهات أزمات ربما تحدث على الأراضي الإيرانية.
اقرأ أيضا.. ترامب وطموحات إيران النووية
بلا شك أن هذا “الاعتراف” يبدو غير مسبوق من النظام الإيراني، الذي لا يعترف بخسائره مهما بلغت. حيث أكد قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي أن “الأعداء يحاولون ترويج أن إيران ضعفت بعد الأحداث الأخيرة وفقدت أذرعا رادعة بالمنطقة”، وأن “القدرات الدفاعية والردعية الإيرانية لم تضعف أبدا، وهي لا تعتمد على حلفائها في المقاومة بمناطق أخرى.” ولكن الواقع يقول إن ما حدث في سوريا ومن قبلها “حزب الله” اللبناني، يمثل خسارة إستراتيجية كبرى فعلية للنظام الإيراني، والسبب في ذلك يعود بالأساس إلى انهيار أحد أهم أسس إستراتيجية الأمن القومي الإيراني، وهي إستراتيجية الحرب بالوكالة. فالنظام الإيراني يعتمد منذ انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية على هذه الإستراتيجية لتفادي تكرار ما حدث خلال تلك الحرب من خسائر بشرية ومادية هائلة. حيث يجد ضالته في الميليشيات والوكلاء من أجل مواجهة ما يعتبره تهديدات للأمن القومي الإيراني، وتنفيذ أهدافه التوسعية لكسب المزيد من النفوذ الإقليمي وتوظيفه في الضغط من أجل تعزيز مكانة إيران إقليميا ودوليا.
التحالف الإيراني ـ السوري ظل يوفر لطهران طيلة سنوات وعقود طويلة ممرا آمنا لنقل الأسلحة إلى “حزب الله” اللبناني، وامتلاك قدرة تهديد دولة إسرائيل وتعويض فارق القدرات العسكرية والتكنولوجية الذي كان ولا يزال يوفر لإسرائيل القدرة على توجيه ضربات عسكرية مباشرة في الداخل الإيراني.
البعض يرى أن السنوات الأخيرة شهدت تطورا على صعيد التقنيات العسكرية والتكنولوجية الإيرانية، حيث باتت المسيرات والصواريخ الإيرانية قادرة على تنفيذ سياسة الذراع الطولى بشكل مماثل لإسرائيل، وتوجيه ضربات مباشرة في العمق الإسرائيلي كما حدث خلال الأشهر الماضية. وهذا قد يبدو صحيحا من الناحية الظاهرية، ولكن تظل قدرة إيران على توجيه مثل هذه الضربات محكومة بعوامل أخرى، مثل الخوف من الضربة الثانية أو رد الفعل الإسرائيلي، وذلك بخلاف إستراتيجية الحرب بالوكالة التي كانت توفر لإيران فرصة التهرب والمراوغة والتملص من مسؤولية العمليات العسكرية التي تنفذها الميليشيات الموالية لها. حيث ظلت طهران تتهرب من مسؤوليتها حيال انتشار الفوضى الإقليمية التي تسببت فيها الميليشيات الموالية لها في اليمن ولبنان والعراق والأراضي الفلسطينية، رغم أنها تتحدث علنا عن قيادتها لـ “محور المقاومة” الذي يضم كافة هذه الميليشيات بالإضافة إلى سوريا خلال فترة حكم عائلة الأسد.
التحالف الإيراني ـ السوري ظل يوفر لطهران طيلة سنوات وعقود طويلة ممرا آمنا لنقل الأسلحة إلى “حزب الله” اللبناني، وامتلاك قدرة تهديد دولة إسرائيل وتعويض فارق القدرات العسكرية والتكنولوجية
ولو ابتعدنا عن التفسيرات النظرية واتخذنا من التطورات الميدانية منطلقا في تحليل ما يحدث حولنا، لوجدنا أن إيران تتجه فعليا لتغيير إستراتيجية الحرب بالوكالة، وتتجه تدريجيا للاستعداد لخوض صراعات ومواجهات أزمات ربما تحدث على الأراضي الإيرانية. وهنا يمكن الإشارة إلى المناورة التي أجرتها قوات الحرس الثوري مع “الباسيج” (قوات شعبية شبه عسكرية)، حيث يخشى النظام الإيراني سيناريو إثارة الفوضى في الداخل عبر استغلال حالة الغضب والاحتقان والظروف المعيشية والاقتصادية من أجل تأليب الشعب الإيراني على النظام.
ويرى النظام أن هذا السيناريو ربما يكون إحدى الأفكار المطروحة لدى إدارة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب للتعامل مع إيران، والذي يرجح أن يركز على فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية ومراقبة تنفيذها، مما قد يقود إلى تدهور قدرة الاقتصاد الإيراني وتغذية الغضب الداخلي، بمعنى تهيئة الظروف لإحداث تغيير من الداخل. وبالتالي يسعى النظام الإيراني إلى تعزيز جاهزية الميليشيات الداخلية لمواجهة سيناريوهات محتملة مثل حدوث انتفاضة شعبية قد تحصل على دعم خارجي، وهي سيناريوهات محتملة بدرجة ما في ظل استبعاد تعرض إيران لهجوم بري خارجي.
خارجيا، قد يبدو من السابق لأوانه القطع بأن نفوذ إيران إقليميا قد انتهى تماما، وأن عصر ما يُعرف بـ”محور المقاومة” قد ولّى وانطوت صفحته، ولكن المؤكد أن تهديدات هذا المحور قد تراجعت بشكل كبير وملموس، ولم تعد الأذرع الإيرانية بالقوة والفاعلية التي كانت عليها قبل عام مضى. ولم يتبقَ من هذه الأذرع سوى جماعة الحوثي الإرهابية، التي تمثل مصدر تهديد لدول الإقليم جميعها، لذا فإنها تمثل مصدر الخطر الأهم حاليا، والقضاء عليها يعني الكثير بالنسبة لتحييد النفوذ والتهديد الإيراني إقليميا ودوليا.
بلا شك أن استمرارية تراجع النفوذ الإيراني تبقى مرهونة إلى حد كبير بمدى قدرة الفاعلين الإقليميين الآخرين على ملء الفراغ الإستراتيجي الناشئ عن انحسار النفوذ الإيراني في ملفات ومناطق شتى، وهذا يتأتى بعوامل مختلفة، منها – على سبيل المثال – مساندة العراق، الذي يشعر بالقلق جراء تغيير نظام الحكم في سوريا، ويخشى إحياء أو انتقال العناصر الإرهابية التي حاربت في سوريا إلى أراضيه، والعمل الجاد من أجل ضمان وصول سوريا إلى بر الأمان وضمان عدم سقوطها في صراع أهلي جديد يمكن أن يوفر نافذة جديدة لعودة النفوذ الإيراني إليها.