أفريقيا

الجزائر.. التحرير من سطوة الماضي وليس نسيانه

لا أظن أن فرنسا كانت بعيدة عن رسم “بروفايل” أيّ رئيس جزائري، أو حتى الإسهام في بعض رتوشاته بشكل مباشر وغير مباشر، ففرنسا لا تتقاسم مع الجزائر التاريخ والذاكرة والجراحات فقط، بل هي أيضا أحد اللاعبين الأساسين في إدارة شؤون العالم.

طيلة فترة حكم الرئيس عبدالمجيد تبون ظلت بوصلة العلاقة بين الجزائر وفرنسا محل موجات تعلو وتنخفض، تترنح بين عبارات مفعمة بالصداقة والود والنفور والغضب والبرودة، تهدأ حين تصل إلى ذروة التكهرب، بالمكالمات الهاتفية أو بلقاءات عابرة رسمية وخاصة سرية أو معلنة، تغلّف بمواقف مبدئية لا تتزعزع من الجانب الجزائري خاصة في ما يتعلق بالذاكرة، وترشح مواقف الجانب الفرنسي بنوع من اللعب على الأعصاب والتريث في الاندفاع لتفكيك الألغام الموضوعة على الطرق والمسالك، ومع هذا تظل فرنسا بكل محمولاتها في مخيال الجزائري مهما علت مكانته أو قصرت، ساكنة في وجدانه ومقيمة في وعيه ولا وعيه.

إلقاء نظرة فاحصة على العدد المهول المقدم من طرف الجزائريين للحصول على تأشيرة الدخول إلى فرنسا لهو مؤشر فاضح على هذا النزوع وهذا الشغف على أن فرنسا “التي نحبّها” هي هي مهما قيل عن توتر وتصدع ومحن بين ساسة البلدين، كما يتم البوح والترويج له في مشهدية الإعلام والخطب، حتى أن الكثير من المسؤولين الكبار الذين قضوا في هذه الحياة الدنيا ماتوا على أرضها، وفي ذلك مفارقة محيرة ومدهشة لمّا تقارن بين حدة الكراهية لها وليونة التودد لها.

هل تكرهنا فرنسا ونحبها في الآن نفسه؟

على الرئيس تبون إن قُدّر له لقاء ماكرون، أن يقول له علنا إننا نريد التحرر من سطوة الماضي وليس نسيانه، وهذا وحده الكفيل بإيجاد مخارج مريحة نحو مستقبل مشترك بيننا.

إيمانويل ماكرون الذي يحب الجزائر من خلال الروائي كمال دواود وشباب “الستارت أيب” و”ديسكو مغرب” المختصة سابقا في تصدير أغنية “الراي”، لا يبذل قصارى جهده في فهم “الجزائر الجديدة” كما يفرش بساطها تبون في كل سانحة وفرصة ورادة وشاردة، هو يريدها على مقاس فرنسا تاريخية تقليدية ومتعصبة، لا يعترف أن بيننا أنهارا من دماء ما زالت تجري في قرى ومداشر وعروق هذه الأرض، ولا يمكن أن تغطى بمجرد مكالمات هاتفية لتزيد من رصيده السياسي وتعززه وإن كانت النوايا والأفعال صادقة أو معلقة بالمصالح والأفضال.

فهل ستغير الزيارة التي بنيت عليها المكالمة شيئا ذا بال وفي الأفق القريب؟

لا يمكن قراءة دلالات الزيارة، وهي غير معلومة التاريخ، وهذا مدعاة للشكوك في أنها ستجرى، لأن البيان الذي تمّ قذفه إلى وسائل الإعلام قال إنها ستكون في أواخر سبتمبر وبداية أكتوبر، دون الجزم بدقة عن تاريخها، وهذا برأيي مخالف للعرف وتقاليد الزيارات عالية المستوى التي من المفترض أنها مضبوطة ومدققة بشكل مدروس من كافة النواحي، فلا يمكن أن نقول مثلا سيجتمع رئيسا بلدين إما في تاريخ كذا أو كذا، وهذا يعني أن هناك نوعا من الخلل والإرباك وعدم اليقين، ويعطي انطباعا قويا أن التخطيط لها ما زال مهلهلا ولم ينضج بعد.

كما أسلفنا لا يمكن قراءة الزيارة، إلا بوضعها في مربع وسياق قرب نهاية العهدة الرئاسية الأولى لتبون مهما رافقها من لغط وغبار بدأ يثار هنا وهناك عن تأجيلات محتملة، وتريث الرئيس تبون في الإعلان ولو عن نيته لخوض غمار عهدة ثانية، ولربما ستكون الزيارة، وهذا ليس بالغريب أيضا، فرصة للبحث كما هو ديدن النظام الجزائري عن حليف قوي يضمن الدعم المباشر وغير المباشر للرئيس القادم، وهو ما دأبت الأدبيات السياسية التي ما انفكت دوما تشير إليه، فلا رئيس جزائريا نال الحظوة خارجيا إن لم ترض عنه العواصم الكبرى وتعرف عنه كل كبيرة وصغيرة، ويساعدها في السراء والضراء، سرا وعلانية، ولا أظن أن فرنسا كانت بعيدة عن رسم “بروفايل” أيّ رئيس جزائري، أو حتى الإسهام في بعض رتوشاته بشكل مباشر وغير مباشر، ففرنسا لا تتقاسم مع الجزائر التاريخ والذاكرة والجراحات فقط، بل هي أيضا أحد اللاعبين الأساسين في إدارة شؤون العالم ولها صوتها المسموع في المحافل الدولية.

لا يمكن قراءة دلالات الزيارة، وهي غير معلومة التاريخ، وهذا مدعاة للشكوك في أنها ستجرى، لأن البيان الذي تمّ قذفه إلى وسائل الإعلام قال إنها ستكون في أواخر سبتمبر وبداية أكتوبر.

كسابقاتها انفتحت المكالمة على نفس المواضيع والقضايا المعروفة التي ستطرح أثناء اللقاء، وأضيفت إليها مشاغل الظرف القاسي والإبادة المخيفة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على يد الآلة الصهيونية، حيث تحدث الرئيس الجزائري لنظيره الفرنسي وأبلغه “قلقه إزاء تطورات الأوضاع في فلسطين المحتلة، لاسيما في غزة”.

قد تكون هذه المكالمة أيضا “جرعة أوكسجين” للنظام الجزائري الحالي مع ما يعرفه من شد وجذب وقلاقل على الحدود التي كانت إلى وقت قريب هادئة، وأسهم بروز تكتلات صاعدة في الاستحواذ على الاهتمام بالقول والفعل، وحتى في احتلال مساحات واسعة بسبب أخطاء في التقدير من الجانب الجزائري، وغياب الرؤى والمناورات المؤسسة على بنيان مرصوص، وعدم واقعية الكثير مما يقوم به النظام الحالي، وانفلات الأحداث بسبب بطء التعامل معها في حينها وعدم الاستباق للإحاطة بها، وضعف التسويق وسقوط حر ومشين للكثير من وسائل الإعلام في التعاطي بشكل احترافي معها، وهذا كله قد يربك كل الإستراتيجيات التي تخطط لها الجزائر للنفوذ في العمق الأفريقي خاصة، وهو ما عجّل في رأينا برنة الهاتف.

أمام مشهد التلفون والرنة التي طال انتظارها وأتت في اليوم الأول من رمضان مع ما يعرفه هذا الأخير من جهد وتعب وخفوت التركيز، جاء الحديث، كما ورد في بيان الرئاسة الجزائرية، بين الرجلين بروتوكوليا ورسميا، يشير إلى أن ساعة اللقاء قد حانت، وأن فوضى التوتر التي سادت لأشهر بين البلدين ستعرف نهاية سعيدة كما يتوقعان، وعلى الرغم من حمية التفاؤل المركز التي رافقت التعليقات والمواقف والآراء التي تعقب كل مكالمة بين الرئيسين، علينا أن نفهم الآخر أن علاقتنا لا بد أن تتغير وتخرج من بوتقة الكمون والسيد والتابع.

على الرئيس تبون إن قُدّر له لقاء ماكرون، أن يقول له علنا إننا نريد التحرر من سطوة الماضي وليس نسيانه، وهذا وحده الكفيل بإيجاد مخارج مريحة نحو مستقبل مشترك بيننا، الجزائر “الحقانية” لا ترى أفقا للعلاقة إلا بمحو عنجهية حنينكم إلى هذه الأرض المستمر في أذرعها المبثوثة في كل موقع وزاوية، وعليكم أن تنهوا فكرة المستعمر من رأسكم وتبدؤوا بتصفير عقلكم لكي ترونا وتروا العالم خاصة مستعمراتكم القديمة في سردية أخرى وهي تلمع بالتطور والتغير والحرية.

أبو بكر زمال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى