وفرت تصريحات أدلى بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب تتعلق بخطته لنقل وتوطين سكان قطاع غزة إلى كل من مصر والأردن، شعبية جديدة للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي كان بحاجة إليها الآن، حيث تمسك برفض مبدأ تهجير الفلسطينيين إلى بلاده أو غيرها، وأضفيت دراما سياسية على هذه القضية مع نشر وسائل إعلام أميركية أن ترامب هاتف السيسي وفاتحه في الأمر وأبدى تفهما له، بينما رد مصدر مصري رفيع المستوى بعدم حدوث هذا الاتصال أصلا، بعد بيان صدر عن وزارة الخارجية المصرية شدد على رفض التهجير وعدم تصفية القضية الفلسطينية.
تدحرجت سريعا كرة التوطين إلى الشارع والبرلمان ووسائل الإعلام في مصر، وتحولت إلى أداة لدعم الرئيس السيسي، كأنه في مواجهة مع الرئيس ترامب الذي ربطته به علاقة جيدة في فترة رئاسته الأولى، وتحول الموقف إلى مزاد يعبر فيه كل شخص أو مؤسسة أو حزب أو طيف اجتماعي عن تأييده للرئيس المصري، والذي أكد مبكرا أن توطين الفلسطينيين في سيناء بمصر “خط أحمر.”
وفّر التركيز على هذه القضية دعما شعبيا للسيسي، الذي أشار في لقاء له مع المستشار الألماني أولاف شولتز عقب عملية طوفان الأقصى إلى رفض نقل الفلسطينيين خارج أراضيهم، ولوّح بتظاهرات يمكن أن يقوم بها الملايين من المصريين رفضا لهذه المسألة، وربما لا يحتاج السيسي إلى ذلك حاليا، لأن البيانات والمواقف الرسمية والشعبية كشفت عن دعم موقفه بوضوح، وتمكنه من مواصلة الرفض وعدم التجاوب مع أي ضغوط، إذا أصر الرئيس ترامب على تنفيذ خطته بأي ثمن.
حققت قضية التوطين هدفا سياسيا مهما للرئيس السيسي، ففي خضم أزمة اقتصادية طاحنة تعيشها مصر وتعرض نظامه إلى انتقادات بسبب بعض السياسات التي أدت إلى تراجع المستوى المعيشي لفئة من المواطنين، ظهرت مؤشرات تحدثت عن تراجع شعبيته لدى من عولوا عليه لتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، فمن رفضوا تصورات الحكومة وأبدوا غضبهم من التوسع الكبير في المشروعات القومية وجدوا أنفسهم في خندق واحد واصطفاف مع السيسي لمساندته في موقفه.
وطالما ركز الرئيس المصري على أهمية التلاحم الوطني ووجود مصفوفة شعبية داعمة لتوجهاته وقت الأزمات والتحديات، وبعد تزايد المشكلات الاقتصادية وعجز الحكومة عن تقديم حلول عاجلة، بدأ الرهان الشعبي يواجه مطبات وفشلت وسائل الإعلام في إعادة التعبئة، لأن غالبية المشروعات التي أنجزت لم تنعكس آثارها الإيجابية على شريحة كبيرة من المواطنين، وانحاز هؤلاء سريعا، ومعهم قوى معارضة، للسيسي وتجاوزا خلافاتهم وتحفظاتهم وانتقاداتهم للأداء العام للسلطة.
إقرأ أيضا: دور كبير لمصر في تثبيت الهدنة بقطاع غزة
دحض موقف السيسي الرافض للتوطين شكوكا راودت البعض بشأن إمكانية قبوله بهذا العرض للحصول على مساعدات مادية سخية لحل جزء من الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد، وراجت تكهنات حول ذلك خلال الفترة الماضية، رعتها جماعة الإخوان للضغط على النظام المصري وزرع حالة من التوجس لدى فئة من المواطنين تجاه السلطة، من أجل نزع واحدة من الثوابت المتعلقة بالحفاظ على منطقة سيناء كخط دفاع أول عن الأمن القومي، ومحاولة هز الثقة بالمؤسسة العسكرية العريقة، والتي تحظى بتقدير كبير في عقل ووجدان المصريين.
يستطيع النظام المصري الاستقواء السياسي بحماية شعبية تمكنه من الصمود أمام أيّ ضغوط قد يلجأ إليها الرئيس ترامب إذا صمم على تنفيذ خطته، وحاول إرضاء يمين إسرائيلي متطرف يجد فيها خيارا مناسبا للتخلص من عبء أمني يؤرقه خوفا من استعادة المقاومة لجاهزيتها العسكرية سريعا بعد تثبيت وقف إطلاق النار.
تراود الرئيس الأميركي فكرة حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي عبر صفقة تؤدي إلى سلام يعتقد إمكانية تحقيقه بحل معضلة الكثافة السكانية في غزة، بينما يرى الرئيس المصري أن هذا الطريق يضاعف من التعقيدات، ويخلق دوامة جديدة من العنف، فاستقبال غزّيين في سيناء بكثافة لن يمنع القوى الفلسطينية من توجيه سلاحها إلى إسرائيل عبر الحدود مع مصر، وسوف توضع القاهرة في موقف حرج، إذا اصطدمت مباشرة مع هؤلاء، أو قامت إسرائيل بالرد العسكري عليهم داخل الأراضي المصرية.
يمكن للرئيس السيسي أن يستثمر الدعم الشعبي الظاهر الذي حصل عليه بموجب رفض عملية التوطين، في تهدئة مواطنين غضبوا من الأداء الاقتصادي للحكومة، وزاد غضبهم مع اتساع رقعة الأضرار التي وقعت على بعضهم، ولذلك فالنظام المصري سيكون راغبا في أو مضطرا لمواصلة الصمود أمام خطة ترامب حتى النهاية، ولن يقبل بالتفافات تلجأ إليها واشنطن لتمريرها، فالتراجع خطأ فادح.
ومن هنا، لن يتمكن السيسي بسهولة من استعادة الالتفاف الشعبي حوله، بعد أن تسببت تداعيات الأزمة الاقتصادية في تآكل جزء كبير من الشعبية التي حصدها عند قيادته لثورة الثلاثين من يونيو 2013 وإسقاط حكم جماعة الإخوان، ما يعني أن خيار الاستجابة لخطة ترامب مستقبلا وبأي طريقة غير مأمون العواقب داخليا، وعلى العكس، يعد التمسك برفضها خيارا مهما كي تتمكن الحكومة من استكمال برنامجها للإصلاح الاقتصادي وسط قليل من الغضب بحجة أن هناك خطرا داهما تتم مواجهته.
تدرك القاهرة أن القبول بخطة التوطين هو مقدمة لتصفية القضية الفلسطينية نهائيا، ومشاركة النظام المصري فيها بالموافقة أو الصمت عليها سوف يضعه في موقف سلبي عندما يتم تقييم هذه المرحلة لاحقا، والأهم أن تطبيقها نكبة إستراتيجية تؤدي إلى عدم حل هذه القضية التي دفعت مصر من أجلها أثمانا باهظة خلال العقود الماضية، وانهيار أحد خطوط الدفاع عن الأمن القومي المصري، ممثلا في الفراغ البشري لقطاع غزة.
وبالتالي تمكين إسرائيل من السيطرة عليه، بكل ما يحمله ذلك من تأثيرات اقتصادية وعرة، حيث يسمح بالهيمنة على حقول الغاز الواعدة في سواحل غزة، وتصدير منتجاتها إلى أوروبا مباشرة، وفتح المجال لتنفيذ سيناريوهات بعيدة تتعلق بمد خطوط غاز من آسيا إلى أوروبا، بشكل يرخي بظلال سلبية على الأهمية الحيوية لقناة السويس، والتي تعرضت إلى أضرار بالغة بفعل التهديدات الأمنية من قبل جماعة الحوثي في اليمن للملاحة الدولية في البحر الأحمر.
تبدو مصر مستعدة للتصدي لخيار التوطين، فقد أفشلت الكثير من المحاولات التي ظهرت منذ اندلاع الحرب على غزة، وأحكمت قبضتها على الحدود لمنع تنفيذه قسريا، وقد تواجه حملة ضارية لتنفيذه طواعية، وما ساعد الدولة على نجاح التصدي الأول الجاهزية التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية، ويساعدها على التصدي الناعم هو حجم الدعم الشعبي لقيادتها السياسية، والتي لن يفرط فيها الرئيس السيسي، باعتبارها شبكة الأمان أو القاعدة الرئيسية التي تمكنه من تفشيل خطة ترامب.