منذ ما يقرب من 16 شهرًا، يعيش مئات الآلاف من الفلسطينيين النازحين في خيام، ممنوعين من العودة إلى شمال غزة، وأمس الاثنين، سمحت لهم إسرائيل بالعودة سيرًا على الأقدام.
معاناة حقيقية
ساروا لساعات طويلة وهم يرتدون الصنادل والنعال، وأكياس الملابس تتدلى من ثنيات مرفقيهم، ساروا بصعوبة لأميال وهم يحملون أطفالهم الصغار بين أذرعهم، والفراش يتدلى من أكتافهم، وكان الرجال المسنون يعرجون على العكازات، وكان الأطفال يدفعون الكراسي المتحركة، وكان أحد الصبية يجر ممتلكاته الأرضية على زلاجة.
منذ ما يقرب من 16 شهراً، يعيش مئات الآلاف من الفلسطينيين من شمال غزة في خيام، حيث منعتهم إسرائيل من العودة إلى منازلهم بعد أن أجبروا على الفرار جنوباً في بداية هجومها العسكري ضد حماس.
وفي يوم الاثنين، وبعد شروق الشمس بقليل، بدأ آلاف النازحين رحلة العودة الشاقة، وبعد أن تسببت الخلافات بين إسرائيل وحماس في تأخير عودتهم خلال عطلة نهاية الأسبوع، انسحب الجيش الإسرائيلي أخيراً من الطريق الساحلي في غزة بحلول الساعة السابعة صباحاً، مما سمح للنازحين بالتحرك شمالاً سيراً على الأقدام. وفي وقت لاحق سُمح لأصحاب السيارات بالقيادة شمالاً على طريق داخلي، مع مراعاة التفتيش.
وسرعان ما شكل المشاة صفًا بشريًا امتد إلى ما لا نهاية ـ أميال في الطول، وكان عددهم نحو عشرين شخصًا في صف واحد. ونادرًا ما كان مثل هذا السفر غير المريح يشعر المرء بمثل هذا القدر من الراحة.
لحظات من البهجة
وقالت ملاك الحاج أحمد (17 عاما)، وهي طالبة في المرحلة الثانوية، كانت تلتقط صورا ذاتية مع عائلتها بجانب الطريق الساحلي: “نحن في غاية السعادة. لا توجد لحظة أكثر بهجة من العودة إلى المنزل”.
وللاحتفال بهذه اللحظة، وزع بعض الناس الحلوى. ورفع البعض علامات النصر للمصورين المارة، وقادت مجموعة من الصبية الصغار أغنية احتفالية. وغنوا: “يمينًا أو يسارًا، الشمال هو الأفضل. إلى الشمال نذهب!”
بالنسبة للفلسطينيين، كانت تلك لحظة مليئة بالرمزية، فمنذ تأسيس إسرائيل في عام 1948، عندما طُرد مئات الآلاف من الفلسطينيين أو فروا من ديارهم فيما يُعرف بالنكبة، كان الفلسطينيون يُعرفون بالنزوح والنفي المتكرر.
هل تحدث نكبة ثالثة؟
إن أغلب سكان غزة هم من نسل اللاجئين الذين أجبروا على الفرار في عام 1948، وكان كثيرون منهم يعتبرون نزوحهم من شمال غزة في عام 2023 بمثابة نكبة ثانية، وقد تعزز هذا الخوف بسبب الدعوات الإسرائيلية المتكررة لتوطين المدنيين الإسرائيليين في شمال غزة، فضلاً عن اقتراح الرئيس ترامب خلال عطلة نهاية الأسبوع بأن ينتقل سكان غزة إلى أجزاء أخرى من العالم العربي.
إن العودة سيرًا على الأقدام إلى المنزل على هذه الخلفية، عبر الأراضي التي انسحب منها الجنود الإسرائيليون للتو، كان بالنسبة لبعض الفلسطينيين بمثابة تحدٍ لتاريخهم الخاص.
“لقد قلبنا الطاولة رأساً على عقب”، هكذا قال أحمد شحادة (34 عاماً)، وهو صاحب مصنع للمنسوجات، والذي قطع مسافة 15 ميلاً في ست ساعات إلى مدينة غزة، وعلى النقيض من العديد من الذين عادوا يوم الاثنين، وجد منزله لا يزال قائماً.
الطرد من غزة
وقال السيد شحادة في اتصال هاتفي: “إنهم يريدون طردنا من غزة”، وأضاف: “أنا جالس على الأريكة في منزلي، ولا أصدق ما يحدث”.
في مدينة دير البلح بوسط القطاع، والتي تعد مركزاً للنازحين من غزة، كان هناك الكثير من الناس يحاولون التوجه شمالاً حتى أصبح من الصعب السير عبر وسط المدينة، وكانت الأسرة تلو الأخرى تهدم الخيام وتحزم أمتعتها في أكياس بلاستيكية. حمل بعض الناس خزانات الغاز على ظهورهم. قام أحد الرجال بتثبيت عجلات في صندوق بلاستيكي، وحوله إلى عربة أطفال مؤقتة لطفله.
وبينما كانوا يسيرون، تصوروا فرحة اللقاء بأقاربهم الذين تجاهلوا أوامر الإخلاء الإسرائيلية وبقوا في الشمال في بداية الحرب.
قالت أنوار أبو هندي، 41 عاماً، وهي ربة منزل تتجه شمالاً ولديها عدة أطفال: “أول شيء سأفعله هو أن أعانق والدتي في ملجأها، مشاعرنا في كل مكان”.
لقاء الأحبة
ومع وصول الناس إلى ممر نتساريم ــ وهي قطعة من الأرض احتلتها القوات الإسرائيلية حتى ساعات قليلة فقط قبل ذلك، وكانت تطلق النار على الفلسطينيين الذين حاولوا عبورها ــ كانت هناك لقاءات مليئة بالدموع بين أولئك الذين سافروا شمالاً وأقاربهم الذين توجهوا جنوباً للقاء بهم.
ولكن وسط هذه النشوة، كانت هناك ملاحظات متكررة من الحذر والإحباط وأحياناً الرعب، كانت الطرق مليئة بالأنقاض، وكانت الطائرات الإسرائيلية بدون طيار لا تزال تحلق في سماء المنطقة طوال أغلب اليوم، وشعر منتقدو حماس في غزة بالإحباط عندما وجدوا أن ضباط الحركة ما زالوا يراقبون طريق المشاة.
وعلى طول الطريق الداخلي للسيارات، واجه السائقون اختناقات مرورية طويلة؛ حيث سمحت إسرائيل لمقاولي الأمن الأجانب بفحص المركبات المتجهة شمالاً بحثاً عن الأسلحة، مما أدى إلى إبطاء السيارات إلى حد كبير.
قوة دولية في غزة!
ويقول المسؤولون إن المقاولين كانوا من المصريين الذين يعملون لصالح شركات خاصة، وكان وجودهم بمثابة رؤية لمستقبل غزة حيث يستمر الغرباء في تقرير مصير سكانها؛ ويرى القادة الإسرائيليون أن المقاولين بمثابة بالون اختبار لقوة دولية أكبر حجماً تشرف على القطاع بدلاً من القيادة الفلسطينية.
وبعد اجتياز الحاجز، تمكن الفلسطينيون أخيرا من رؤية الدمار الذي رأوه فقط في مقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي.
لقد تحولت منطقة شمال غزة إلى أرض قاحلة، في أعقاب الغارات الجوية الإسرائيلية المكثفة وهدم الجيش الإسرائيلي لعشرات المباني، والتي كانت حماس قد زودت العديد منها بالفخاخ والمتفجرات، وفي الأشهر الأخيرة، تسببت المعارك العنيفة بين إسرائيل وحماس، والتي استمرت حتى بدء وقف إطلاق النار، في أضرار واسعة النطاق بشكل خاص شمال مدينة غزة.
وقال السيد شحادة، صاحب مصنع المنسوجات: “كان الدمار الذي مررنا به أسوأ من نهاية العالم. كنت خائفًا من أن أسير فوق جثث مدفونة تحت الأنقاض”.
وبعد أن وصل إلى منزله في مدينة غزة، فوجئ السيد شحادة بأن المنزل لم يتعرض إلا لأضرار طفيفة.
لكن آخرين عادوا إلى الأنقاض، وإلى الأحياء التي لم يعودوا يعرفونها.
اقرأ أيضا.. نزاع إسرائيل وحماس بشأن الرهائن يترك النازحين الفلسطينيين في انتظار
أين كانت محطة البنزين المحلية؟ منزل الجيران؟ الدوار القريب؟
وفي كثير من الحالات، اختفت هذه المعالم المحلية ببساطة.
وتقول شروق القر، 27 عاماً، وهي خريجة قانون عادت إلى مدينة غزة: “الحمد لله أننا نجونا من هذه الحرب”. لكنها تضيف: “بغض النظر عن المكان الذي نجد فيه مأوى، سواء هنا أو هناك، فما زلنا نعيش في الخيام، محاطين بالدمار والحزن”.