هل كان هدف إسرائيل من الحرب التي شنتها على قطاع غزة القضاء على حماس، أم تحويل القطاع إلى مكان لا يصلح للحياة وتفريغه من أهله؟
من ينظر إلى صور الدمار يعلم أن هناك استحالة لإعادة إعمار القطاع بوجود الأهالي في غزة. وبالتالي، الاقتراح الذي طرحه الرئيس الأميركي دونالد ترامب لنقل أهل غزة إلى دول عربية لمدة 6 أشهر أو عام، يبدو منطقيا، إلا أنه باطل ومثير للريبة. ولا يُستبعد – بل مؤكد – أن يكون فخا مرسوما للإيقاع بأهل غزة. الفترة المقترحة لا تكفي لبناء جسر واحد، فما بالك ببنية تحتية كاملة تشمل مستشفيات ومدارس وأبنية حكومية ومحطات توليد الطاقة وتزويد المياه وشبكة طرق وعشرات الآلاف من المنازل.
وفقا لتقديرات الأمم المتحدة، ستصل كلفة إعادة البناء إلى العشرات من المليارات، وستستغرق إعادة بناء جميع الوحدات السكنية المدمرة أعواما وليس أشهرا.
اقرأ أيضا.. لماذا تصريحات ترامب عن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة؟
لم ينتظر الجانبان الفلسطيني والعربي، خاصة الدول المقترحة لاستقبال أهل القطاع، طويلا ليريا في الأمر خدعة مخطط لها لتفريغ القطاع من أهله وإنهاء فكرة الدولتين، وقد يكون لتلك المخاوف ما يبررها. التجربة علمتنا أن الفلسطيني الذي يهجّر من فلسطين لا يعود إليها ثانية. وبسؤال ترامب إن كانت الفترة الزمنية التي تحدث عنها لإعادة البناء كافية، لم يقدم جوابا قاطعا، واكتفى بكلمة ربما في الحالتين.. ربما تكفي وربما لا تكفي.
ترامب مقاول قبل أن يكون سياسيا ورئيسا للولايات المتحدة لفترتين متباعدتين، ويعلم بحكم الخبرة أن فترة عام لن تكون كافية لإنجاز 20 في المئة من العمل المطلوب، وأن فترة 6 أشهر قد لا تكون كافية لرفع الأنقاض والتصرف فيها.
يبدو أن الحلم الذي راود ترامب بعد أن تابع صورا تعرض حجم “الهدم” في قطاع غزة، وتحدث عنه خلال خطاب التنصيب، لم يكن فكرة عابرة، بل مشروعا لإقامة مدينة تنافس عواصم الدول العربية، تصبح صرّة العالم، لتصبح الطرق جميعها تؤدي إلى غزة.
قبل أن يطرح ترامب فكرته حول ترحيل أهل غزة بأيام، تساءلت عن محتوى الصورة التي رسمها في مخيلته بعد أن وصف القطاع بـ”موقع هدم ضخم”. ثم تابع الوصف قائلا “يمكن القيام ببعض الأمور الجميلة هناك. الساحل مذهل، والطقس والموقع رائعان. يمكن تحقيق بعض الأشياء الرائعة في غزة. يمكن تحقيق بعض الأشياء الجميلة في غزة.”
لم يكن لديّ جواب واضح للسؤال الذي طرحته. ولكن، بموقع مثل موقع غزة لا بد أن الصورة تشابه أو تفوق ليس فقط عواصم عربية، بل عواصم أوروبية وعالمية أيضا.
الشيء الذي لم يقله ترامب هو ما مصير أهل غزة المرحّلين، هل سيكون لهم مكان في غزة الجديدة؟ أعتقد أن الجميع يعرفون الجواب.
الرد الطبيعي والمتوقع على اقتراح ترامب هو الرفض. من يجرؤ بعد 77 عاما من النكبة على تحدي مشاعر الشارع العربي الذي لم يقبل نصفه على الأقل حل الدولتين حتى هذه اللحظة؟ بالتأكيد لن يقبل الشارع العربي تفريغ غزة من أهلها.
لقد عملت إسرائيل كل ما في وسعها خلال 15 شهرا من “طوفان الأقصى” على تدمير غزة وتحويلها إلى ركام، وحرصت قبل التوقيع على أيّ اتفاق أن تصبح غزة مكانا غير قابل للحياة. وسواء كان الأمر مخططا له مسبقا أو أن اليمين الإسرائيلي استغل الفرصة المتاحة مع عودة ترامب للبيت الأبيض وتعمده وضع الحكومات العربية في مأزق، خاصة المملكة الأردنية ومصر، وهما دولتان مقترحتان من قبله لاستقبال المرحّلين.
هناك من يقول إن ترامب يطارد نفس الحلم الصهيوني لليمين الإسرائيلي لإقامة مملكة إسرائيل. وهذا أمر مستبعد تماما. الأقرب أن ترامب يحلم بإقامة الولاية رقم 51 شرق المتوسط، وهو مدرك لأهمية المنطقة الإستراتيجية.
لا أعتقد أن ترامب كان يتوقع موافقة فورية على خطته من الحكومة المصرية والأردنية، وهو حتما لم يفاجأ بردود الفعل الرافضة الصادرة عن الدول العربية حتى هذه اللحظة.
لم يكن ترامب ينتظر ردا مختلفا من الجانب العربي والفلسطيني. كل ما أراده هو أن يقول للعالم إنني عرضت على الفلسطينيين حلا لإعادة بناء غزة، وهم رفضوه، ورفضته معهم الدول العربية. وفوق كل ذلك لم يقدموا أو يتبنوا حلا بديلا.
الرد الحقيقي على خطة ترامب لا يكفي أن يكون بالحكم عن نواياه. لا يمكن أن يحاكم الناس على نواياهم. لا بد من تقديم خطة بديلة لإعادة بناء غزة وتقديم الدعم لأهلها.
المشكلة ليست في أن نقبل عرض ترامب أو نرفضه، فهو أولا وأخيرا عرض من مقاول قابل للنقاش والتفاوض.
أمام الدول العربية أيام فقط لتقديم خطة مقنعة قبل إتمام العمل ببنود الاتفاق بين إسرائيل وحماس. وفي الأثناء، يبدو إصرار إسرائيل على منح حماس فرصة للاستمرار بحكم القطاع خطة مدروسة. هل يوجد من هو أفضل من حماس لتقديم مبررات لإسرائيل لتعمل على إبقاء غزة مكانا غير صالح للحياة؟
لن يكون كافيا تقديم مخطط مفصل يبين كيف ستموّل كل هذه الجهود، ومن سيشارك بالتمويل والمدة الزمنية لإنجاز المشاريع. لا بد من عرض حل مقنع لإيواء الغزيين إلى أن تكتمل إعادة الإعمار.
والأهم، من سيشرف على القطاع خلال هذه المرحلة، هل هي حماس أم السلطة الفلسطينية؟ وهل يمكن بعد كل ما حدث وضع الثقة بحركة حماس، ومن يضمن أنها لن تمتثل ثانية لأوامر خارجية، وتقدم لإسرائيل مبررات لهدم ما سيبنى من جديد؟
رفع الأنقاض وتطهير غزة من الذخائر يشكلان تحديا آخر يذكر بالتحدي الذي جابهه العالم خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، خاصة إذا علمنا أن في غزة نحو 37 مليون طن من الأنقاض، وأن الكثير منها يضم ذخائر قابلة للانفجار. وهناك أيضا نحو 800 ألف طن من الأسبستوس، وهو مادة مسرطنة كانت تستخدم في البناء. وهناك الآلاف من الجثث العالقة تحت الركام والتي لا بد من التعامل معها بطريقة إنسانية ومحاولة التعرف على أصحابها، إضافة إلى المخاطر الناجمة عن المواد الكيميائية والعمليات الصناعية، والنفايات البيولوجية الناجمة عن أنقاض المستشفيات.
بعد ذلك فقط يمكن التفكير في وضع تفاصيل خطة إعادة الإعمار والبحث عن مستثمرين يمكن إقناعهم برصد عشرات المليارات من الدولارات، ولكن قبل ذلك لا بد من إقناعهم أن استثمارهم في أمان.
الغزيون قرروا التشبث بالأرض. المشكلة، هل لدينا خطة متكاملة نناقش المجتمع الدولي حولها؟ وإن وجدت، هل نجد مستثمرين يقبلون وضع أموالهم في منطقة تديرها حركة حماس؟