لا يزال هناك من يحتفل بانتصار حركة حماس وهزيمة إسرائيل في غزة. بالنسبة إلى هؤلاء يكفي أن يخرج على الناس عشرات الأنفار ممن يرفعون السلاح ويضعون على جباههم شعارات الجناح العسكري بعد وقف إطلاق النار، للتأكيد على أن النصر قد تحقق.
في كل مغامرة لا بد من أن يتجه أصحاب العقل لحساب الربح والخسارة. المسألة ليست تحديا للنتائج الحاصلة على الأرض، ولا للوقائع كما سجلتها الأرقام التي يقال دائما إنها لا تكذب.
هناك أكثر من 47 ألف قتيل تم إحصاؤهم رسميا من بينهم 17 ألف قتيل من عناصر حماس والبقية من عموم المواطنين. وتؤكد السلطات أن ما لا يقل عن عشرة آلاف جثة لا تزال تحت الأنقاض. وباعتبار أن عدد سكان القطاع يبلغ 2.3 مليون فإن الإحصائيات الأولية تشير إلى أن 6 في المئة من السكان قضوا بمعدل 100 قتيل يوميا. تمت إبادة 2092 عائلة ومسحها من السجل المدني، وبلغ عدد أفراد هذه العائلات 5967 فردا. وهناك 4889 عائلة فلسطينية أبيدت ولم يتبقَّ منها إلا فرد واحد فقط، وعدد أفراد هذه العائلات فاق 8980 فردا. عدد النساء اللواتي قتلن بلغ 12316 امرأة، بالإضافة إلى 1155 من الطواقم الطبية و94 من الدفاع المدني و205 من الصحافيين.
تجاوز عدد الجرحى 110 آلاف من بينهم من سيقضي بقية عمره في حالة عجز. 90 في المئة من سكان القطاع أصبحوا مهجرين، 625 ألف طفل أضاعوا عاما دراسيا كاملا. أكثر من 38 ألف طفل يعيشون من دون الوالدين أو من دون أحدهما، في حين فقدت 14 ألف امرأة زوجها. 3500 طفل معرّضون للموت بسبب نقص الغذاء. حوالي 88 في المئة من المدارس أتلفت أو دمرت. 503 من أعضاء هيئة التدريس قتلوا. نحو 92 في المئة من الوحدات السكنية تعرضت للتدمير، نفس المصير كان لما يفوق 80 في المئة من المرافق التجارية. 93 في المئة من فروع المصارف سويت مقارها بالأرض.
68 في المئة من الأراضي الزراعية أصبحت غير صالحة للزراعة. قدرت شركة توزيع كهرباء غزة الخسائر التي تكبدها قطاع الكهرباء بنحو 450 مليون دولار. تم تدمير 34 مستشفى، بالإضافة إلى 80 مركزا صحيا آخر خرجت عن الخدمة، كما دمرت 136 سيارة إسعاف و162 مؤسسة صحية، ما أدى إلى تدهور الوضع الصحي في القطاع بشكل حاد. بلغ عدد المعتقلين منذ بداية الحرب 6600 حالة اعتقال، بما في ذلك 360 من الكوادر الصحية و48 من الصحافيين.
سيكون على السلطات قضاء عشر سنوات كاملة في العمل اليومي من أجل رفع وإزالة 42 مليون طن من الأنقاض بكلفة تبلغ مبدئيا 700 مليون دولار. ويشير الخبراء إلى أن كلفة إعادة إعمار القطاع يمكن أن تصل إلى 80 مليار دولار أو أكثر.
أدت حرب غزة إلى مقتل أبرز قيادات حماس كإسماعيل هنية وصالح العاروري ويحي السنوار، وأغلب قيادات الصف الأول لكتائب عزالدين القسام، ولعدد من قيادات بقية الفصائل. وفي لبنان نجحت إسرائيل في اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله وأهم قيادات الصفوف الأولى والثانية. سجل لبنان وحده مقتل نحو 3800 شخص وإصابة حوالي 16 ألفا آخرين في القصف الإسرائيلي. في نوفمبر الماضي قدم البنك الدولي تقديرا أوليا للأضرار والخسائر التي لحقت بلبنان بنحو 8.5 مليار دولار.
في الضفة الغربية سجل منذ 7 أكتوبر من عام 2023 حتى نهائية 2024 مقتل نحو 835 فلسطينيا، من بينهم 173 طفلا، وإصابة 6 آلاف و450 آخرين، ونفذت إسرائيل نحو 19 ألفا و700 اعتداء على الفلسطينيين، واقتلاع وتخريب وتضرر وتسميم 19 ألف شجرة، واستولت على 53 ألف دونم (الدونم = 1000 متر مربع)، وأقامت 13 منطقة عازلة حول المستوطنات.
كما تمت مصادقة وإيداع 23 ألف وحدة استيطانية جديدة في المستوطنات الإسرائيلية بالضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس، فيما أقام المستوطنون 57 بؤرة استيطانية جديدة، وشرعت سلطات الاحتلال في شرعنة 13 بؤرة استيطانية أخرى، وهدمت 1022 منشأة سكنية وزراعية، وسلمت 1167 إخطارا بالهدم ووقف البناء. هذا بالطبع إلى جانب تعرية الخلايا السرية المسلحة للفصائل والقضاء على عدد كبير من عناصرها كما يحدث في جنين حاليا.
لا يقف الأمر عند هذا الحد، فمحور المقاومة الذي تنتمي إليه حماس خسر إحدى أهم ركائزه في المنطقة وهو النظام السوري بما يعني قطع خطوط الإمداد على حزب الله وتحييد الساحة اللبنانية، وتأمين إسرائيل لحدودها مع سوريا باختراقها وتدمير السلاح الإستراتيجي في الداخل السوري. الرئيس الأسبق للجنة الخارجية والأمن في الكنيست تسفي هاوزر، كان واضحا عندما قال إن هذه “فرصة لا تحصل إلا مرة واحدة في كل مئة سنة، والاستيلاء المؤقت على المنطقة العازلة في هضبة الجولان، وكذلك السيطرة في جنوب جبل الشيخ، خطوات تكتيكية لا تشكل جوابا إستراتيجيا مناسبا فيه ما يحقق الفرصة الكبرى التي وقعت في طريقنا.” طموحات تل أبيب أو على الأقل اليمين المتشدد تتجاوز ما تحقق، وهو يرى الفرصة الملائمة لتوسيع مساحة الجغرافيا التي يرغب في بسط نفوذه عليها.
كل هذا وغيره حصل نتيجة طوفان الأقصى الذي يبدو أنه جرف الجميع، وغيّر المعادلة بشكل غير مسبوق، وأكد جملة من المعطيات الأساسية أبرزها أن إسرائيل نجحت في اختراق الجميع بما في ذلك نظام الملالي في إيران ونظام بشار الأسد في سوريا وحزب الله في لبنان وكانت لها عيونها الراصدة في غزة إلى جانب سيطرتها على أجهزة ومؤسسات السلطة في رام الله. أثبتت التجربة أن إسرائيل كان لها جواسيسها وعملاؤها وأتباعها ومخبروها في كل مكان بالمنطقة، وأنها تمكنت من اكتشاف جميع نقاط ضعف محور المقاومة واستغلتها بما تحتاج إليه مصالحها وحساباتها.
اقرأ أيضا.. شراكة المصالح السياسية بين حماس ونتنياهو.. ماذا يحدث؟
وفوق ذلك، فإن إسرائيل حققت هدفا آخر من غير الممكن التغافل عنه، وهو تلك السيطرة التي كادت تكون مطلقة على القرار الرسمي في عواصم الغرب القوية وفي صدارتها واشنطن ثم لندن وبرلين وباريس. تحولت دماء الفلسطينيين إلي سلعة في مزاد الانتخابات وخاصة في الولايات المتحدة عندما تسابق بايدن وترامب على من تكون له أفضيلة دعم إسرائيل. الصمت العربي المطبق كان منتظرا، والمجتمع الدولي أكد مرة أخرى ازدواجية المعايير التي يقيس بها المواقف مما يجري في العالم. لا الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن استطاعا تغيير الموقف على الأرض، حتى محكمة الجنايات الدولية أثبتت أنها رهينة التوازنات الدولية، ومجرد تجرؤها على مسؤولين إسرائيليين جعلها وقضاتها في مرمى العقوبات الأميركية.
بالنسبة إلى النصر العظيم الذي تتحدث عنه حماس هو تحرير 735 سجينا لدى إسرائيل في سياق الاتفاق المبرم بين الطرفين برعاية قطرية – مصرية – أميركية. لكن الحركة تنسى أو تتناسى مثلا أن قوات الاحتلال الأمنية والمخابراتية اعتادت على أن تلاحق أي سجين محرر إذا كان متورطا بالفعل في قتل إسرائيليين، وأن تعيد اعتقال المحررين ممن تعتبرهم خطرا على أمنها مباشرة بعد الانتهاء من تحقيق مصالحها من الاتفاق.
لا شيء يدل على أن حماس انتصرت في المعركة. بقاؤها لا يعني الانتصار الذي يتغنى به البعض، ولكنه يعني غباء القيادة الإسرائيلية التي اعتقدت أنها قادرة على القضاء على تنظيم عقائدي. القضاء على المنظمة وعلى مشروع المقاومة لا يتجاوز أن يكون خيالا. كما أن تدمير إسرائيل وتحرير الأرض بقوة السلاح سيبقيان وهما. الحل أن يتفق الفلسطينيون على موقف وطني موحد، وأن يتراجع الصهاينة عن عنادهم ويسلموا بحق أهل فلسطين في دولة وطنية. أما عدا ذلك فإن ماكينة القوة ستبقى تطحن الضعفاء ممن يخرجون علينا في كل مناسبة بشعارات الانتصار الذي لا يترك وراءه إلا الآلاف من الضحايا ومليارات الدولارات من الخسائر.