دولة الإحتلال

نتنياهو يجعل إسرائيل مفلسة أخلاقيّا

يبدو أن إسرائيل عازمة على أن تثبت أمام العالم أجمع أنها فقدت كل حس بالبوصلة الأخلاقية والتناسب والشفقة والرحمة

المذبحة التي لا يمكن تصورها، والتي ارتكبتها حماس ضد اليهود الإسرائيليين، وتعطشها الذي لا يرتوي إلى الدماء اليهودية كانا سبباً في إثارة أشد الإدانات شراسة في العديد من بلدان العالم، بما في ذلك العديد من الدول العربية. وكانت الدعوة إلى الانتقام والثأر من جانب الكثير من الإسرائيليين بمثابة رد فعل إنساني غريزي يمكن تبريره في لحظة من الغضب والدمار لا مثيل لها. وفي هذه الحالة فإن رد فعل الإسرائيليين يتجاوز المذبحة التي ارتكبتها حماس لأنها أعادت إلى الحياة ذكريات المحرقة التي أقسم اليهود على عدم تكرارها أبداً، لكنها حدثت، وإن كان على نطاق أصغر بكثير؛ إن الوحشية وبرودة الدمّ اللتين اتسم بهما هجوم حماس ذكّرتا بالمحرقة المحفورة في عقول وأرواح اليهود.

إن القرار الذي اتخذته إسرائيل، والمتمثل في سحق حماس كحركة سياسية وتدمير بنيتها التحتية ومنعها من إعادة بناء نفسها، يشكل ضرورة أساسية، ولا بد من متابعة القرار بقوة وبلا هوادة. ولكن تحت أي ظرف من الظروف، وبغض النظر عما شهده اليهود، لا يستطيع الجيش الإسرائيلي تبرير أي عمل انتقامي ضد الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين الأبرياء الذين لا علاقة لهم بعمل حماس الشرير.

لم يسأل قادة حماس أياً من النساء والأطفال الفلسطينيين القتلى أو المصابين ما إذا كان عليهم أن يذهبوا ويذبحوا الإسرائيليين الأبرياء على نطاق غير مسبوق. ورغم أن حماس كانت تعلم جيداً الثمن الذي لا يمكن تصوره والذي سيدفعه هؤلاء الفلسطينيون العاديون في نهاية المطاف، إلا أنها كانت على أتم الاستعداد لتركهم يموتون بعشرات الآلاف كحمل قرباني على مذبح أشرس الوحوش التي تجوب الأرض.

فبعد أكثر من ستة أشهر من القتال الذي ألحق الموت والدمار المروع بغزة وأودى بحياة أكثر من 30 ألف شخص، ثلثاهم من النساء والأطفال، بينما أدى إلى تدمير نصف غزة بالكامل، يجب على المرء أن يطرح السؤال: هل كان هناك عنصر قوي للانتقام ساهم في هذه الكارثة الإنسانية الهائلة؟ ومن المأساوي أن الجواب هو نعم. إن دور الضحية متأصل بعمق في النفس اليهودية، والقفز من الضحية إلى المعتدي هو فعل لاواعٍ؛ التصرف على أساسه عفوي. ومع ذلك، فإن مدى رد الفعل الإسرائيلي يدعو إلى التساؤل عما إذا كان الجنود الإسرائيليون قد شاركوا أم لا في أعمال انتقامية تتجاوز حقهم المشروع في الدفاع عن النفس أثناء ملاحقة نشطاء حماس.

عندما نرى في الوقت الحالي بأم أعيننا الدمار الذي يلحق بالحيّ تلو الآخر، والذي يتجاوز بشكل رهيب أي تناسب للأضرار الجانبية التي غالبا ما لا يمكن تجنبها في حالة الحرب، فإننا نرى الثأر والانتقام.

وعندما يتفاخر الجنود بأنهم يعملون ضمن القوة العسكرية الأكثر أخلاقية في العالم ولكنهم يضحكون ويرقصون في أعقاب انفجار وتسوية مبنى سكني بالأرض، ما يسفر عن مقتل العشرات من المدنيين من بينهم ربما واحد أو اثنان من مقاتلي حماس المشتبه بهم، فإن هذا ليس عملاً من أعمال الدفاع عن النفس، بل هو عمل انتقامي يتحدى منطق ما هو أخلاقي.

وعندما يواجه جميع سكان غزة “مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي الحاد” ويموت المئات من الأطفال بسبب أمراض قابلة للشفاء لأنهم لم يتمكنوا من الحصول على العلاج والأدوية التي يحتاجون إليها، فإن هذه جريمة لا تغتفر ويشاهدها العالم كله في الوقت الحقيقي مع الاشمئزاز والازدراء.

وعندما يضطر أغلب الفلسطينيين إلى إخلاء منازلهم مع النساء والأطفال، ويضطر المرضى إلى السير لأميال مع القليل من حصص الغذاء أو من دونها، دون أن يعرفوا أين سينامون ومن أين ستأتي الوجبة التالية، فإن ذلك يعد أمرا قاسٍيا وخاليا من أي عرف أخلاقي.

وعندما يتم دفن عائلة بأكملها على قيد الحياة تحت أنقاض المبنى الذي انهار فوق رؤوس أفرادها، ويموتون موتًا بطيئًا قبل أن يتمكن رجال الإنقاذ والفرق الطبية من إنقاذ أي شخص، فإن هذا عمل غير إنساني ويضر كثيرا بالأرضية الأخلاقية العالية التي يفخر بها الجيش الإسرائيلي ويعتز.

لقد قُتل أكثر من 25 ألف امرأة وطفل في غزة، بمن في ذلك 258 طفلاً لم تتح لهم فرصة الاحتفال بعيد ميلادهم الأول. الرضع والأبناء الصغار هم أطفال بدأوا للتو في اكتشاف العالم. فهل يمكن للهجوم الهمجي والمدان تماماً الذي شنته حماس في 7 أكتوبر الماضي أن يبرر أو يفسر القتل المروع للأبرياء على هذا النطاق؟ كيف يمكن لأي شخص يدعي أنه يقدر الحياة أن يسلبها من الكثير من الأطفال الأبرياء الذين كانت حياتهم بأكملها أمامهم؟ هذا ليس ضررا جانبيا، كما يحاول بعض الإسرائيليين المتهكمين تفسيره؛ هذا هو الانتقام، وسوف تستمر دورة الانتقام إلى أجل غير مسمى.

بعد فترة وجيزة من السابع من أكتوبر أتذكر مقابلة أجريتها مع جندي إسرائيلي قال صراحة إنه “يحتاج إلى الانتقام”. ألا يدرك ذلك الجندي، وكل من يفكر مثله، أن هذه هي على وجه التحديد الطريقة التي كانت تعمل بها حماس في السابع من أكتوبر؟ أليس من الواضح أن الانتقام، بطبعه، ليس له نهاية؟ إنها استجابة ميكانيكية وطائشة للأذى الذي يتكرر حتى يمتلك أحد الأطراف القوة الأخلاقية والشجاعة ليقول كفى: لن نستمر في ذبح بعضنا البعض بالجملة، منتقمين بذلك من الأفراد الذين لم يرتكبوا أي خطأ، والذين لا يعني موتهم سوى التسبب في معاناة فظيعة لمن أحبوهم.

ألا تدرك كل أم إسرائيلية أن كل أم فلسطينية تعتني بأطفالها بنفس الحب اللامحدود الذي تكنه هي لأطفالها؟ هل تعتقد إسرائيل حقاً أن قيمة الطفل الفلسطيني أقل من قيمة الطفل الإسرائيلي؟ هل يمكن لأي شخص أن يعتقد بصدق أن الرد الأخلاقي على قتل أحبائه الأبرياء هو قتل المزيد من الأبرياء؟ وعلى أي مقياس أو مستوى؟ وكم عدد القتلى من الأطفال الفلسطينيين الذي نحتاجه لإشباع الرغبة في الانتقام؟ ليس هناك نهاية، لأنه مهما قتلت إسرائيل من الأطفال الفلسطينيين، فإنها لن تعيد إلى الحياة طفلاً واحداً من هؤلاء الصغار الإسرائيليين الذين قتلوا في 7 أكتوبر.

إسرائيل لا تكرم قتلاها بهذه المذبحة والدمار، بل على العكس تماما. إنه عار على الموتى وعلى نفسها. يبدو أن إسرائيل عازمة على أن تثبت أمام العالم أجمع أنها فقدت كل حس بالبوصلة الأخلاقية والتناسب والشفقة والرحمة. الشعب اليهودي أفضل من هذا؛ فهو الذي علمنا أن إنقاذ حياة إنسان واحد يعني إنقاذ العالم. إن سفك دماء الأبرياء عمدًا سيكون دائمًا عملاً شريرًا شنيعًا لا يمكن تبريره أخلاقياً. لقد حان الوقت لكي تضع إسرائيل حداً لهذا العقاب قبل أن تفقد روحها وأي تعاطف أخلاقي كان يكنه العالم لها تجاه الخطأ الذي عانت منه قبل أكثر من ستة أشهر.

ويبرر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هذا العقاب الجماعي بتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، واعتبارهم غير جديرين بالمعاملة الإنسانية. إنه يشن حملة لا هوادة فيها ضد الفلسطينيين الأبرياء الذين لا علاقة لهم بأعمال حماس الإرهابية. بالنسبة إلى نتنياهو لا يوجد ببساطة تكافؤ أخلاقي. وبالنسبة إليه وإلى العديد من أتباعه البائسين، الفلسطينيون هم أقل من البشر، وحياتهم لا تتساوى مع حياة اليهود الإسرائيليين.

إسرائيل ستنتصر في هذه الحرب. والسؤال هو: هل ستفوز بها مع التمسك بالقيم الأخلاقية اليهودية التي أرشدت وضمنت بقاءها على مر القرون، أم ستفوز بها من خلال ترك جروح أخلاقية عميقة ستحفر في الذاكرة وكتب التاريخ باعتبارها واحدة من أحلك فصول إسرائيل؟ يجب على الإسرائيليين أن يتذكروا أن كل دولة عربية تقريبًا ستحتفل بزوال حماس بهدوء (بل بعضها قد يحتفل علنًا)، لكنها ستواصل التحدث بصوت أعلى وأوضح عن اعتراضها على قتل الفلسطينيين الأبرياء، وخاصة النساء والأطفال، وسوف يُحبط أي احتمال مستقبلي لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية الأخرى.

إن تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم سوف يعود ليطارد الإسرائيليين، وذلك ببساطة لأن الفلسطينيين ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه. وسواء كانوا بشراً عاديين لديهم آمال وتطلعات أو دون البشر، فإن إسرائيل عالقة معهم. وبغض النظر عن الكيفية التي ستنتهي بها الحرب، سيكون على إسرائيل أن تعالج الصراع مع الفلسطينيين. وعمق ندوب الحرب سيحدد العلاقة لسنوات قادمة.

ومع ارتفاع عدد القتلى والدمار في غزة كل دقيقة، يتضاءل التعاطف الأولي الساحق تجاه الخسائر المأساوية التي تكبدتها إسرائيل حتى بين العديد من أصدقائها. وفي الواقع، بمجرد أن تفقد إسرائيل بوصلتها الأخلاقية في التعامل مع الأزمة، فلن يُنظر إليها بعد الآن على أنها الضحية التي نهضت من رماد المحرقة ولديها كل الحق في الدفاع عن نفسها، بل باعتبارها المضحية أو الطرف المعتدي الذي يعتمد بقاءه على رماد الفلسطينيين.

يعتمد الانتصار النهائي لإسرائيل على قدرتها على تجاوز النزاع والالتزام بالقيم الأخلاقية التي تأسست عليها الدولة والتي تشكل الركائز الوحيدة التي يمكنها دعمها.

ألون بن مئير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى