طغت حرب غزة والمواجهات على الجبهات الأخرى التي فتحها محور الممانعة في لبنان والبحر الأحمر على ملف أساسي كان حتى الماضي القريب يؤرق القوى الإقليمية والدولية، وهو ملف إيران النووي. لكن تراجع الحديث عنه لا يعني أنه لم يعد يؤثر في التطورات في المنطقة.
ولقد صدرت أخيراً دراسة عن مركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية في جامعة بار إيلان الإسرائيلية تتحدث عن الخطر الكبير الذي ستشكله إيران وميليشياتها في المنطقة على إسرائيل إذا تمكنت طهران من تصنيع أسلحة نووية بمساعدة من حليفتها كوريا الشمالية. وعرضت هذه الدراسة الخيارات التي على القيادة الإسرائيلية التعامل معها، وتحديداً في بناء استراتيجية ردع نووي قائمة على امتلاك دولة معادية لها وفي مواجهة عسكرية بالوكالة معها لسلاح نووي.
تشير الدراسة إلى أن القيادة الإسرائيلية لا تزال تعتمد على استراتيجية نووية قديمة قائمة على إضفاء الضبابية على برنامجها النووي، وعدم الاعتراف علناً بوجوده وامتلاك أي أسلحة نووية رغم كل الصور والوثائق التي تثبت عكس ذلك.
وتعرف استراتيجية إسرائيل النووية باسم “خيار شمشون” وهي قائمة على استخدام السلاح النووي عند مواجهة إسرائيل تهديداً عسكرياً وجودياً وكرد على مهاجمتها بسلاح دمار شامل – نووي أو بيولوجي أو كيماوي. بمعنى آخر، فهي استراتيجية التدمير الشامل المتبادل مع الخصم أو كما يقال بالعامية “علي وعلى أعدائي”. وتقول الدراسة إنه في حال حصول إيران على سلاح نووي فإنها ستصبح أكثر جرأة وعدوانية نحو إسرائيل، والأمر نفسه ينطبق على وكلاء إيران في المنطقة، الأمر الذي سيضع القيادة الإسرائيلية أمام واقع أكثر تعقيداً وصعوبة مما هو عليه اليوم.
ومن الخيارات التي اقترحتها الدراسة أن تخرج إسرائيل إلى العلن حول ترسانتها النووية لتمثل رسالة واضحة إلى إيران حول قدراتها واستعدادها للجوء إليها في حال حصول أي هجوم نووي عليها. وأضافت أن إسرائيل قد تضطر لفتح قنوات تواصل مع طهران لوضع أسس لردع نووي متبادل. وتشير الدراسة إلى أن أي تصعيد مستقبلي مع إيران سيكون متدرجاً وصولاً إلى سلاح نووي يكون بادئ الأمر تكتيكياً لتدمير مدن وينتهي بنووي قوي يدمر الدولة بأسرها. ولا تستبعد الدراسة في اقتراحاتها حتى اعتماد إسرائيل سياسة الضربة النووية الاستباقية إذا ما وجدت بذلك ما ينجيها من خيار التدمير الحتمي المتبادل. لكن طبعاً لن يكون للسلاح النووي الإسرائيلي أي دور في مواجهة الميليشيات الموالية لإيران.
هدف الدراسة الحقيقي يظهر في جزئها الأخير حيث تستنتج أن أفضل خيار لإسرائيل يبقى في منع إيران من امتلاك سلاح نووي. وترى الدراسة أن المواجهة المتصاعدة مع إيران وحلفائها اليوم على جبهات عدة قد تصل إلى حد استهداف الأراضي الإيرانية، وفي هذه الحالة يجب أن تستغل القيادة الإسرائيلية الفرصة لتوجيه ضربة قوية من أجل تدمير برنامج إيران النووي بالكامل لتتجنب الوصول مستقبلاً إلى “خيار شمشون”. وترى الدراسة في الأزمة التي تواجه إسرائيل اليوم فرصة ثمينة على القيادة الإسرائيلية أن تستغلها لتوجيه ضربة قاضية للبرنامج النووي الإيراني.
تجدر الإشارة إلى أن رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية كشف في تقرير أخير له أن إيران قلّصت مخزونها من اليورانيوم المخصب لمستوى 60 في المئة، إلا أنها لم تتوقف عن عمليات تخصيب اليورانيوم بكميات كبيرة. كما أشار إلى أن طهران لم تقدم حتى الآن أي إيضاحات حول مصدر ترسبات ليورانيوم مخصب بدرجة عالية وجدت في مواقع عسكرية.
وكانت أجهزة استخبارات أميركية وأوروبية نشرت تقارير خلال العام الماضي، تحدثت عن تقدم كبير لإيران وامتلاكها ما يكفي من اليورانيوم المخصب لتقوم بتخصيب إضافي حتى 90 بالمئة، وهو مستوى تصنيع سلاح نووي. وأشارت تقديرات هذه الأجهزة إلى أن إيران قد تحتاج الى بضعة أشهر فقط لتصنع سلاح نووي متى قررت ذلك. وعليه، فإن إيران اقتربت تقنياً من عتبة تحولها دولة نووية. ولا تزال المفاوضات بين طهران وقوى عظمى ومن ضمنها أميركا متوقفة للتوصل إلى اتفاق جديد للحد من برنامج إيران النووي.
وتملك إيران ترسانة كبيرة من الصواريخ البالستية والجوالة التي يصل مداها إلى إسرائيل، وهي قادرة على حمل رؤوس نووية. حتى مع امتلاك ميليشيات إيران صواريخ بالستية وجوالة هناك إمكان أن تستخدم طهران هذه الميليشيات لتوجيه ضربة نووية إذا ما شاءت. كما أن إيران بانتظار تسلم مقاتلات هجومية حديثة من روسيا طراز سوخوي-35، ما سيمكنها من توجيه ضربات من الجو مستخدمة أسلحة تقليدية وغير تقليدية. وإذا أصبحت إيران دولة نووية فإن قوى إقليمية أخرى مثل السعودية أو مصر أو تركيا قد تقرر العمل على الحصول على قدرات نووية لتعزيز قدرات الردع الخاصة بها.
وهذا سيعقد استراتيجية الردع الإسرائيلية، ويجعل الشرق الأوسط بأسره في حالة خطر وجودي. كما أن امتلاك إيران أو أي قوة أخرى سلاحاً نووياً سيدفع المجتمع الدولي إلى الضغط جدياً على دول المنطقة كافة، ومنها إسرائيل للتخلي عن السلاح النووي، وهو أمر لا تريده القيادة الإسرائيلية التي تمكنت من إبقاء قدراتها النووية خارج التداول في الغرب بسبب عدم وجود قوى إقليمية أخرى نووية أو تسعى لتكون ذلك.
تعيش إسرائيل في حالة صدمة منذ أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، والتي جعلت غالبية سكانها تميل إلى دعم الحرب في قطاع غزة وعلى الجبهة الشمالية. وينعكس ذلك في المواقف المتشددة لحكومة الحرب الإسرائيلية في ما يخص الهدنة في غزة أو ضبط إيقاع هجماتها على الجبهة الشمالية (لبنان).
كما أن انخراط الولايات المتحدة في عمليات عسكرية ضد عملاء إيران في العراق وسوريا واليمن يتيح فرصة لإسرائيل لضمان دعم واشنطن في حال انزلاق المواجهات الحالية إلى حرب مباشرة مع إيران. كما أن الاشتباكات المتصاعدة على الجبهة الشمالية قد توفر لها فرصة لتصعيد عمليتها بهدف توجيه ضربة قوية لإضعاف قدرات “حزب الله” كخطوة تمهيدية لتوجيه ضربة ضد برنامج إيران النووي.
فمعظم الخبراء يعتقدون أن إسرائيل ستوجه ضربة كبيرة لـ”حزب الله” قبل أي هجوم مباشر على إيران من أجل إضعاف قوة الرد الإيرانية عبر قوتها المتقدمة في لبنان، أي “حزب الله”. وعليه، فإن إسرائيل قد لا تتوانى عن استغلال أي فرصة أو سبب لتوجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية من أجل تفادي إيجاد نفسها مضطرة للتعامل مع سيناريوات “خيار شمشون” إذا ما تمكنت إيران من تصنيع سلاح نووي.