لمصر دور حيوي في التوقيع على اتفاق الهدنة بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة، بالتعاون مع قطر والولايات المتحدة، وعليها أن تبذل جهودا كبيرة لتثبيته ومنع حدوث خروقات تهدد استمرار تطبيقه، ما يجعل الاجتماعات الفنية التي عقدت في القاهرة قبل يومين لها أهمية، لأنها اعتنت بالإجراءات التي تهيّئ المجال لتنفيذ صفقة الأسرى على الأرض بقدر من الهدوء، وتحديد الجهة التي يمكن أن ترتكب خطأ يفضي إلى انهيارها أو يؤثر على إتمام مراحلها الثلاث.
قطعت الصفقة وما تنطوي عليه من وقف دائم لإطلاق النار في غزة الطريق على ما تردد حول حدوث تهجير قسري أو طوعي إلى سيناء، وتوقف نزيف الانتقادات التي لاحقت القيادة المصرية الفترة الماضية بشأن “تواطؤ” أقدمت عليه أثناء الحرب في ما يتعلق بالوجود الإسرائيلي في ممر فيلادلفيا، أو “تقصير” في حماية معبر رفح وإدخال المساعدات بغزارة لفلسطيني غزة، إذ تجهض بنود الاتفاق بين إسرائيل وحماس السرديات التي ترددت في هذا السياق.
تحملت القاهرة أعباء أمنية واقتصادية في حرب غزة، وتعاملت بمسؤولية كبيرة مع التطورات العسكرية في القطاع التي امتدت إلى لبنان وإيران والبحر الأحمر وأسهمت بدور فاعل في سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، ولم تخضع مصر لجرها إلى دخول حرب لم تشارك في التخطيط لها أو تقبل بتطوراتها الإسرائيلية، وكانت تقديراتها الإستراتيجية صائبة بشأن خيوطها الإقليمية وتأثيرها على الأوضاع في المنطقة.
مع تطبيق المرحلة الأولى من اتفاق غزة اليوم الأحد، تعود الحركة الظاهرة للدور المصري، لأن الترتيبات التي ينطوي عليها تلعب فيها القاهرة دورا رئيسيا، من ضمان عدم حدوث خروقات أمنية من أحد الطرفين حتى دخول المساعدات بكميات وفيرة، مرورا بتسهيل تطبيق التفاهمات بين القوى الفلسطينية المختلفة وإعادة الحياة إلى مهمة لجنة الإسناد المجتمعي المنوط بها إدارة قطاع غزة، ويمهد دورها لضخ دماء جديدة في عروق السلطة الفلسطينية التي أنهكت خلال السنوات الماضية، وربما تواجهها عراقيل عديدة للتعامل مع إسرائيل والمجتمع الدولي الفترة المقبلة.
مع فتح معبر رفح قريبا، تعود الحيوية بشكل أكبر إلى دور القاهرة، لأن عملية تجهيزه وإدارته لن يكتب لها النجاح دون مصر، وهي الرئة التي يتنفس منها القطاع، والجهة الوحيدة المفتوحة وتربط سكانه بالعالم، وتنتظره والمنطقة المحيطة به داخل غزة ترتيبات أمنية تصر إسرائيل عليها، في ظل اقتناعها بأن جزءا كبيرا من الأسلحة والمعدات التي استخدمتها حماس في الحرب جاءت عبر أنفاق من سيناء.
يتوقف جانب من مصير وقف إطلاق النار في غزة على الدبلوماسية التي تتبعها القاهرة مع طرفيه (إسرائيل وحماس)، حيث تعلم الكثير من أهداف كليهما، ولديها من الخبرة ما يعينها على إدارة المرحلة الحرجة، التي سيحاول كل طرف فيها تأكيد أنه ربح الحرب سياسيا وحقق أهدافه العسكرية منها، لمغازلة جمهوره، وقطف ثمار منها وتقزيم الخسائر التي تطاله لاحقا.
أشد ما يعني القاهرة حاليا هو تثبيت وقف إطلاق النار، والاستفادة من إصرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتوفير هدوء في منطقة قلقة على الدوام، والاستعداد لمرحلة مبهمة يطلق فيها خطته المؤجلة المعروفة بـ”صفقة القرن”.
لا تزال الكثير من تفاصيل هذه الصفقة مجهولة، وما لم تكن مصر جزءا مشاركا فيها فقد يصيبها رذاذها، لأنها تحمل حلا جريئا من ترامب وفريقه المعاون، ومن المتوقع أن يكون تنفيذه على حساب الفلسطينيين وبعض دول المنطقة، كما تحمل رغبة عارمة في تطبيق ما يوصف بـ”الاتفاقيات الإبراهيمية”، التي لمصر تحفظات عليها، إذ تضمن وجودا طبيعيا لإسرائيل دون أن تقدم تنازلات جوهرية لحل القضية الفلسطينية، ما يمثل قفزا على بعض ثوابت مصر التاريخية والتأثير على مصالحها الحيوية، والاضطرار للدخول في ركب جديد للتعاون مع إسرائيل.
إقرأ أيضا : هل ستسلم روسيا بشار الأسد في إطار ” صفقة ” ؟
يسهم نجاح الدور المصري لتثبيت الهدنة بقطاع غزة في استرداد جزء مما فقدته على الساحة الإقليمية مؤخرا، حيث انصبت مهمتها في عملية وساطة مرتبكة، وظلت متعثرة نحو خمسة عشر شهرا، وربما تكون بذلت جهودا صحبة قطر والولايات المتحدة ولم تثمر شيئا، لكن اليوم المهمة مختلفة، فالنتيجة التي تتمخض عن صفقة الأسرى مؤثرة في شكل قطاع غزة، وآلية إدارته وضمانات توفير الأمن لسكانه وعدم توفير ذريعة تستغلها إسرائيل لانتهاك اتفاق الهدنة، ودور حماس والسلطة الفلسطينية.
قد يكون الاتفاق مقدمة لتسوية سياسية للقضية الفلسطينية مع اهتمام قوى عدة في المجتمع الدولي بها، وامتلاك الرئيس ترامب خطة للتعاطي معها، ويمكن أن يصبح الاتفاق هدنة مؤقتة إلى حين استئناف الحرب، والدخول في جولة أخرى منها، إذ يشير سلوك حماس إلى أنها تتعامل مع وقف الحرب بحسبانه انتصارا سياسيا، بالتالي عدم إقصائها تماما من إدارة غزة، وهي إشكالية سوف تتفجر حتما في اليوم التالي لإنهاء المراحل الثلاث لتنفيذ صفقة الأسرى، وربما تنفجر قبلها ويسقط الاتفاق.
تعلم الإدارة المصرية المطبات التي تواجهها الصفقة، وعليها مراعاة عدم الوقوع في أفخاخ حماس أو إسرائيل، فالحركة تتعامل مع الاتفاق على أنه نصر باهظ ولن تفرط في فرض قبضتها على القطاع، بحجة أنها تكبّدت تضحيات كبيرة، وهي مشكلة يمكن أن تجعل غزة لا تبارح مربع السخونة الذي تعيشه منذ فترة طويلة، وتعيد القطاع إلى ما قبل السابع من أكتوبر وعملية طوفان الأقصى، وتقدم لإسرائيل هدية سياسية على طبق من فضة وفرصة للدخول والخروج في الوقت الذي تختاره والطريقة التي تحددها من دون حاجة إلى تطبيق خطة جنرالات أو إقامة حواجز دائمة مكلفة.
إذا كان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ورفاقه من المتطرفين قبلوا الصفقة على مضض، وبعضهم رفض واستمر في الحكومة لاعتبارات سياسية معينة، فإن الرهان الذي يراودهم هو أن حماس ستتكفل بنسف الصفقة بنفسها، بعد يقينها أن عدم تحقيق نتنياهو أهدافه كاملة هو انتصار لها، وتأخذها النشوة وتعيد تكرار نموذجها في غزة قبل الحرب، وتغيّب السلطة الفلسطينية.
من هذه الزاوية، ستواجه مصر أزمة عميقة لتثبيت مكونات الهدنة، لأن الحركة يمكن أن تتبنى تصورات مزعجة وتقدم على تصرفات قاتلة، ما لم تعد النظر في بعض توجهاتها، وتقبل بإعادة تأهيل أفكارها، بما يتماشى مع معطيات المرحلة الجديدة.
يبدو الدور الذي تقوم به القاهرة الآن أصعب من ذي قبل، أي قبل السابع من أكتوبر الذي كانت فيه الأمور تجري بصورة روتينية، فقد أدخلت إسرائيل تعديلات كبيرة على خططها العسكرية والسياسية لمنع تكرار هذه التجربة القاسية، ولن تقبل بهفوات من حماس وأخطاء أمنية تكبدها خسائر فادحة، ما يجعل مهمة مصر أشد تعقيدا، إذا أرادت أن يكون لها دور إقليمي مؤثر، لأن قطار سوريا سوف يمضي بعيدا عنها.