كارثة جيوسياسية ألمّت بإيران عقب سقوط نظام بشار الأسد؛ هي كارثة وفي عمق الحسابات الإستراتيجية تعني خسارة إيران أحد أهم شركائها التقليديين في الشرق الأوسط وفي ما يُسمى بمحور المقاومة، وهذا الأمر تدرك إيران بأنه له تداعيات كبيرة وأبعاد شتى حيال نفوذها الإقليمي، وفي ذات السياق سيكون لسقوط الأسد ارتدادات قوية على حالة وشكل الاصطفافات الإقليمية وكذا على موازين القوة الإيرانية في المنطقة، خاصة أن لإيران قوى إقليمية ودولية معادية لوجودها في المنطقة، والأهم أنه حتى شركاء إيران كتركيا تعمل اليوم على استغلال سقوط الأسد، وتهندس سياقات تُمكنها من التحول إلى صاحبة اليد العليا في الجغرافيا السورية، وهذا أيضاً يؤطر ويحجّم النفوذ الإيراني في عموم المنطقة.
إذاً فإن سقوط النظام السوري وخسارة حليف إستراتيجي لإيران، ستكون لهما تأثيرات تتعدى فقدان الحليف والنفوذ، فالتخوفات الإيرانية ما بعد سقوط الأسد سيكون لها تأثير على الداخل الإيراني أولاً، وتالياً ستجبر إيران على البحث عن معادلة إقليمية جديدة تقيها فقدان شريك تقليدي في المنطقة، وفي جانب آخر فإن هناك تساؤلات كثيرة تُثار حول الضعف الإيراني لاسيما مع تساقط أدواتها في المنطقة، والعمل إسرائيلياً وأميركياً على تقطيع أذرعها من فلسطين إلى لبنان وسوريا وحتى اليمن، كل ذلك يضع إيران اليوم في مرحلة جديدة عنوانها المزيد من التوترات الداخلية والخارجية التي ستتعايش معها “جمهورية خامنئي” حتى وقت طويل.
التصريحات الإيرانية تعكس مدى الضيق الذي أصاب طهران عقب سقوط الأسد، وهي تترجم صراحة حالة التخبط التي تمر بها إيران. بهذا المعنى فإن تصريحات المسؤولين الإيرانيين بدءاً من المرشد علي خامنئي ومعه وزير الخارجية عباس عراقجي، في مقابل ما طرحه مستشار الرئيس للشؤون الإستراتيجية جواد ظريف وسماه “مبادرة المودة لدول غرب آسيا”، تعني في العمق تخوفاً إيرانياً بمنعكسات داخلية وخارجية وفق الآتي:
أولاً: على الصعيد الداخلي فقد برزت أصوات في الداخل الإيراني انتقدت دعم إيران لنظام الأسد على مدى أربعة عشر عاماً. هذه الأصوات وإن كان تأثيرها محدوداً في هذا التوقيت جراء القبضة الإيرانية القوية في الداخل، إلا أنها تُعد مؤشراً على حالة السُخط الشعبي ضد نظام خامنئي، خاصة أن الواقع الاقتصادي في إيران متأزم ويُعاني ضغوطاً كبيرة. ربطاً بذلك فقد سارعت إيران لتهدئة الداخل الإيراني عبر انتقادها نظام الأسد بعد سقوطه، واعتباره المسؤول الوحيد عمّا حدث، وقد بررت إيران ذلك بأنه لم يكن يسمع النصائح التي كانت تزوده إيران بها، حيال إعادة التقارب مع شعبه والاهتمام أكثر بقاعدته الشعبية و”الطائفة العلوية”، وضرورة إجراء تعديلات سياسية وتعزيز الوضع الاقتصادي والمعيشي للسوريين.
ما سبق من ادعاءات وانتقادات إيرانية للأسد ونظامه، هي ذاتها ما يطالب به الإيرانيون، فالشعب الإيراني يُعاني من واقع اقتصادي مُزر ومتأزم، ونسب الفقر في الداخل الإيراني ترتفع بوتيرة متسارعة، وبذلك فإن ما تسوّقه طهران يُمثل انفصاماً بين النظام الإيراني والشعب، وهذا أيضاً ما يُعمق حالة السُخط ضد سياسات خامنئي داخلياً وخارجياً.
ثانياً: على الصعيد الخارجي تلاحظ بشكل جليّ حالة التخبط التي تعانيها إيران بعد سقوط الأسد، وهذا أيضاً يعكس تخبطاً دبلوماسياً وصدمة إستراتيجية عكستها تصريحات الخارجية الإيرانية بعد سقوط الأسد والتي كانت كلاسيكية تقليدية، خاصة أن الخارجية الإيرانية وبحسب بيانها عقب سقوط الأسد بأنها تدعم خيارات الشعب السوري ووحدة أراضيه، إضافة إلى ذلك فإن تصريحات عباس عراقجي جاءت في سياق الرغبات بالتواصل مع إدارة العمليات العسكرية في سوريا وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.
لكن خامنئي مهندس السياسات الإيرانية كان له موقف مغاير، حين دعا الشعب السوري إلى الوقوف بكل قوة وإصرار لمواجهة من صمم هذا الانفلات الأمني ومن نفذه، قائلاً “نتوقع أن تؤدي الأحداث في سوريا إلى ظهور مجموعة من الشرفاء الأقوياء لأنه ليس لدى الشباب السوري ما يخسره، فمدارسهم وجامعاتهم وبيوتهم وشوارعهم غير آمنة.” تصريحات المُرشد أجبرت وزير الخارجية الإيراني على تعديل ما طالب به سابقاً لجهة التواصل مع حُكام سوريا الجُدد، إذ دعا عراقجي خلال مؤتمر لممثلي المرشد الإيراني في المؤسسات العسكرية إلى تعاون الجهاز الدبلوماسي مع الميدان، بمعنى العمل دبلوماسياً لكن بإطار عسكري، وبمعنى أدق فإن إيران تسعى صراحة إلى ما يُمكن تسميته بتفعيل “الوجه العسكري للخارجية الإيرانية،” وهذا ما ترجمه عراقجي حين قال إنه “من الباكر الحكم الآن، فهناك الكثير من العوامل المؤثرة التي ستحدد مستقبل هذا البلد،” مضيفاً “في رأيي أنه من السابق لأوانه إصدار حكم، سواء بالنسبة إلينا أو إلى أولئك الذين يعتقدون أن هناك انتصارات قد تحققت، فالتطورات المستقبلية ستكون كثيرة.”
حقيقة الأمر فإن التصريحات الإيرانية لا تحتمل التأويل بأكثر من معنى، إذ يبدو واضحاً بأن إيران تهندس خطواتها بغية التحرك في سوريا من أجل خلق حالة من اللاإستقرار في الواقع السوري، وذلك عبر تحريك ما بقي من أدواتها في سوريا، أو لجهة تشكيل خلايا وميليشيات طائفية ترتكز على بقايا عناصر الأجهزة الأمنية والعسكرية في سوريا. نتيجة لذلك فقد حذر وزير الخارجية السوري أسعد حسن الشيباني إيران من بث الفوضى في بلاده، وقال “إنه يجب على إيران احترام إرادة الشعب السوري وسيادة البلاد وسلامته، ونحذرهم من بث الفوضى في سوريا ونحملهم كذلك تداعيات التصريحات الأخيرة.”
إقرأ أيضا : الأسئلة الحاسمة في فترة الخطوبة لتحديد نجاح الزواج
صفوة ما سبق، يبدو واضحاً أن فقدان إيران حليفاً إستراتيجياً سيكون له تأثيرات عميقة تتعلق بنفوذها في المنطقة، لكن الأمر لا يقف عند حدود خسارة ملعب إستراتيجي تُمارس من خلاله طهران دورها الإقليمي، بل الأمر يتعدى قدرة إيران على احتواء تأثيرات سقوط الأسد. فالواضح أن نفوذها بدأ يتهاوى في عموم المنطقة، وهي تدرك بأن الواقع ضمن عناوينه الإقليمية الحالية سواء في سوريا أو لبنان وحتى العراق وفلسطين، لم يعد قادراً على تلبية مشاريعها في الإقليم، ويبدو ذلك بشكل جليّ من خلال ما تعكسه التصريحات الإيرانية التي تناور ما بين افتتاح صفحة إقليمية جديدة عنوانها “مودة” بحسب ما أعلنه جواد ظريف، وبين محاولات التأثير في سياق التطورات في سوريا عبر إحداث حالة من اللاإستقرار في الشارع السوري.
بين هذا وذاك، فإن مسار إيران الجديد الذي تعتمده في هذا التوقيت يعتمد على المزج ما بين الخطاب التعاوني والتصعيدي، وهذا حقيقةً ما اعتادت عليه إيران في التسويق لسياساتها الإقليمية، وفي المقابل فإن الخطاب الإيراني المزدوج يعكس حجم المخاوف من الوصول إلى عزلة إقليمية تُفقدها أيّ فرص للحضور في سوريا الجديدة. بهذا المعنى فإن إيران تبحث عن صيغة يمكن من خلالها أن تعود إلى الطاولة السورية، وإيجاد فرص جديدة للاستثمار في الملف السوري، فهي تريد البحث عن صيغة تمنحها مقعداً على المائدة السورية يمكّنها من المطالبة بتلك المصالح مستقبلاً، أي محاولة إيجاد أساس للوجود الإيراني والمنافع المحتملة في سوريا، لكن الحُكام الجُدد في سوريا يرفضون حتى اللحظة إعادة افتتاح السفارة الإيرانية في دمشق، وهذا له ما له سياسياً ودبلوماسياً.