يبدو أن الوصول لصفقة التبادل ووقف إطلاق النار في غزة باتت الأقرب إلى الإنجاز هذه المرة من أي مرة سابقة. لم تختلف بنود الصفقة هذه المرة كثيراً في جوهرها عما عرض في مرات سابقة، والتي كان بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي يختلق الأسباب لإحباطها في معظم تلك المرات، كما تشير انتقادات إسرائيليين مطلعين على مجريات المفاوضات.
يبدو أن تهديدات دونالد ترامب بضرورة عقد تلك الصفقة قبل استلامه للسلطة بعد أيام كانت السبب الأول والمباشر لموافقة نتنياهو عليها هذه المرة. تأتي هذه الصفقة، على خلفية أحداث جسام حدثت في فلسطين، خلقت توابع مستقبلية لا يمكن تجاهلها. وستستكمل مراحل تنفيذها في ظل حقبة رئاسة ترامب، الذي يحمل في جعبته مخططات وأهدافاً يسعى لتحقيقها في المنطقة، يمكن أن تستشرف مجريات تنفيذ مراحل هذه الصفقة في الأيام القادمة. كما أن تلك التطورات المتعلقة بإنجاز الصفقة ومراحل تنفيذها تأتي في إطار تطورات إقليمية مهمة، من المرجح أن تلقي بظلالها على مخرجات تنفيذ تلك الصفقة في النهاية.
لعل الإنجاز الأول لتلك الصفقة هو وقف شلال الدم الفلسطيني المتواصل في غزة منذ أكثر من ١٥ شهرا، أمام صمت رسمي دولي يتجاهل عنصرية تلك الجرائم وشناعتها. فبدون انجاز الصفقة، ليس هناك من يهتم لمعاناة أكثر من ٢ مليون فلسطيني، تستباح في كل لحظة حياتهم وأمنهم وأحلامهم بوحشية. إن بنود الصفقة المعلن عنها مؤخراً تشير إلى عدم تحقيق حكومة الاحتلال لأهداف الحرب التي شنتها على غزة منذ الثامن من أكتوبر من العام الماضي. ولعل الأهداف المعلنة لتلك الحرب، والتي طالما شدد نتنياهو ورسميون إسرائيليون آخرون عليها، كانت هزيمة حركة حماس، واستعادة المحتجزين في غزة بالقوة، وإحكام السيطرة الأمنية على غزة بعد الحرب. فالصفقة تتحدث عن عملية تبادل، كما طالبت حركة حماس منذ بداية هذه العملية.
اقرأ أيضا.. الهدنة وأهداف الحرب.. ماذا تحمل الأيام المقبلة؟
ورغم أن الحركة تحدثت في البداية عن تبييض السجون، أي خروج جميع الفلسطينيين من سجون الاحتلال، إلا أنه يبدو أن هذه الصفقة لم تحقق ذلك. ويجري الحديث عن صفقة يخرج في اطارها المحتجزون الإسرائيليون من غزة بشكل متدرج، وفي ظل ثلاث مراحل، مقابل أسرى ومعتقلين فلسطينيين، منهم من رفض نتنياهو وآخرون من قيادات الاحتلال تحريرهم في السابق. وتجنبت الحركة في ظل حيثيات الصفقة الحالية الثغرات التي كانت في صفقات سابقة، والتي مكنت الاحتلال من إعادة اعتقال المحررين الفلسطينيين، وهو ما عرف كمصطلح بـ «الباب الدوار»، إلا أن من أهم العيوب التي تتعلق بهذا البند في هذه الصفقة أنها ستحرم عدداً من المحررين الفلسطينيين من العيش في وطنهم.
يومي، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية. ويتفاقم الوضع الداخلي الإسرائيلي بتأزم الخلافات بين التيارات السياسية المختلفة، وتصاعد الاحتجاجات الشعبية في الشارع. كما تتأثر سمعة الاحتلال الدولية سلبياً يوماً بعد يوم مع تواصل جرائمه في غزة. فقد يكون إخراج من تبقى من المحتجزين الأحياء في غزة، ووقف حالة الاستنزاف الإسرائيلي المتواصل على المستوى البشري والاقتصادي والدولي، قد يعد مصلحة لإسرائيل من وجهة نظر ترامب.
وقد يعول ترامب، وفي إطار التطورات الإقليمية على تحقيق النصر لإسرائيل عبر الطرق السياسية بعد فشل المسار العسكري. وهو ما قد نشهد إرهاصاته بعد إنجاز الصفقة الحالية. فقد لمح ترامب بعد نشره مقطع فيديو لـ جيفري ساكس، وهو أكاديمي أميركي معروف يحذر من الانجرار لتحقيق أهداف نتنياهو وإسرائيل بخوض حرب مع إيران، إلى أن الحروب ليست وحدها الطريق لتحقيق الأهداف. ورغم أن ساكس كان يشير إلى المعنى العميق لمصادرة إسرائيل للسياسة الخارجية الأميركية، عبر داعميها في الولايات المتحدة، وهي مقاربة طرحها من قبل عالما العلاقات الدولية ستيفن والت وجون ميرشايمر في كتابهما «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجة الأميركية»، إلا أن ترامب على الأرجح ركز على المعنى السطحي، الخاص بتجنب السقوط بفخ توجهات نتنياهو الدموية المرتبط بشن الحروب في المنطقة.
ويعي ترامب أن منطقة الشرق الأوسط اليوم لا تشبه تلك التي تركها في العام ٢٠٢٠، فتبعات حرب غزة خلخلت معادلات القوة والردع في المنطقة لصالح إسرائيل، بتفكك محور إيران وتذبذب مواقفها بعد الخسارة التي تكبدها حزب الله في لبنان، وسقوط نظام بشار الأسد في سورية. من الصعب إغفال التطورات الدراماتيكية في المنطقة، فالهدنة مع لبنان، والتي تبدو وكأنها من طرف واحد، وهو الطرف اللبناني، إذ تستمر إسرائيل باعتداءاتها على السيادة اللبنانية، كما تتطاول إسرائيل على السيادة السورية، باحتلال مزيد من أراضيها دون رد، في ظل حالة اضطراب داخلي كبير، تدعم وضع مخططات أميركية غربية أمنية وسياسة لصالح إسرائيل في المنطقة.
وقد يكون من المفيد تتبع التطورات في لبنان، الذي انتخب واختار رئيسا للدولة ورئيس وزراء، في أعقاب صفقة وقف إطلاق النار مع حزب الله، تتناقض توجهاتهما مع رؤية حزب الله، خصوصاً فيما يتعلق بتطبيق القرار الأممي ١٧٠١، وانسحاب قوات الحزب إلى شمال الليطاني، وحصر سلاح الدولة تحت المظلة الرسمية. ورغم أن الوضع السياسي الداخلي اللبناني في طور تبلوره في أعقاب الحرب، إلا أن هناك تعويلا غربيا على تجفيف منابع قوة حزب الله العسكرية، خصوصاً بعد سقوط نظام بشار الأسد، والخروج الإيراني من سورية. وقد يكون ذلك دليلاً موجهاً للنوايا السياسية التي تحاك لغزة، في ظل الإصرار على عدم السماح لحركة حماس بالمشاركة في إدارة القطاع بعد الحرب، بالإضافة لمقاربة تجفيف مواردها أسوة بحزب الله، خصوصاً وأن المرحلة الثالثة من الصفقة، والمخصصة للإعمار قد تضع مستقبل غزة على المحك، باشتراط نظام الحكم وشكله وتبعيته. وقد يربط ترامب تطورات صفقة غزة مع مستقبل التطبيع الإسرائيلي مع المملكة العربية السعودية التي طالبت بوقف الحرب على غزة، وربطت اتفاق التطبيع بإنجازات على صعيد إعلان الدولة الفلسطينية، اذ قد يستغل ترامب الصفقة والتسهيلات الإنسانية في غزة، لإنجاز اتفاق التطبيع. وقد تساعد جميع تلك التطورات ترامب بتحقيق مقاربته تجاه إيران، والتي أعلن عنها بالفعل، برغبته بتوقيع اتفاق يحد من تغلغلها الإقليمي ونشاطها العسكري النووي، وعدم الذهاب للحرب، كأفضل سيناريو له.
ورغم ذلك تبقى إرادات الدول وشعوبها العامل الحاسم في قرارتها وتحديد سياساتها. في فلسطين، يبدو جلياً أن الوحدة والقرار الوطني المشترك لمواجهة التحديات والمؤامرات التي تحاك ضد الفلسطينيين في غزة وفي الضفة أيضا هي السبيل الوحيد أمامهم. في لبنان، أكد نواف سلام رئيس الوزراء الجديد بأن اتفاقاً مع حزب الله لرسم مسار سياسي يقبل به جميع اللبنانيين في طريقة إدارة شؤون البلاد.
ويبدو من المبكر التنبؤ بالنتائج، لكن يبدو أن اللبنانيين بحاجة لتلك الوحدة خصوصاً اليوم لتخطي أزماتهم. وفي السعودية، تبدو المصالح مع الولايات المتحدة مهمة، ولكن ليس بأي ثمن. فالسعوديون اختاروا التصالح مع إيران عبر الوساطة الصينية في العام ٢٠٢٣، ولم يعودوا مهتمين بمشاركة الأميركيين بالضغط على إيران، خصوصا في ظل براغماتية سياساتها وتراجع مكانتها نسبياً، وتفكك معادلة التعاون مع إسرائيل لردعها، فالحاجة للتعاون والسلام مع جميع دول المنطقة باتت أولوية لتحقيق طموحاتهم الاقتصادية. ويبدو أن تبني تحقيق العدالة للقضية الفلسطينية ورقة إضافية للمملكة تخدم طموحاتها بترسيخ مكانتها القطبية في المنطقة.