يشهد القرن الإفريقي في السنوات الأخيرة تحوُّلات إستراتيجية مهمة مع عودة النفوذ الروسي إلى المنطقة، خاصةً في ظل التنافس المتزايد بين القوى العالمية للسيطرة على الممرات المائية ومصادر الثروات الطبيعية.
تعكس هذه التحركات الروسية رغبة موسكو في استعادة دورها كقوة عالمية قادرة على التأثير في مناطق النفوذ التقليدية للغرب، وذلك عبر تعزيز حضورها السياسي والعسكري والاقتصادي.
ويُعدّ الصومال، بموقعه الجغرافي الإستراتيجي وإمكاناته التنموية الكامنة، بوابة رئيسية لهذا التوسُّع الروسي، خاصةً في ظل سعي الصومال لإعادة بناء دولته، وتعزيز شراكاته الخارجية لتحقيق الاستقرار والتنمية.
يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على أبعاد هذا النفوذ الروسي المتجدد، وقراءة دوافعه وأهدافه في سياق التنافس الدولي والإقليمي، واستكشاف التحديات التي يواجهها والفرص التي يوفّرها لكل من روسيا والصومال.
من خلال ذلك، يُحاول المقال تقديم رؤية تحليلية متعمقة لتأثير هذه العودة على خريطة التحالفات الجيوسياسية ومستقبل الاستقرار في المنطقة.
محاولات مواجهة النفوذ الغربي في القرن الإفريقي:
خلال فترة الحرب الباردة، بذل الاتحاد السوفييتي جهودًا حثيثة لمواجهة النفوذ الغربي، خاصة الأمريكي والأوروبي، في منطقة القرن الإفريقي. واعتبر السوفييت المنطقة جزءًا من صراع القوى الكبرى الذي كان يهدف للهيمنة على المواقع الإستراتيجية والتوازن العسكري والاقتصادي العالمي.
وقد ركزت السياسة السوفييتية في المنطقة على إقامة تحالفات قوية مع الأنظمة السياسية التي أظهرت استعدادًا لتبنّي الأفكار الاشتراكية، أو التي كانت تبحث عن دعم مادي وعسكري لتعزيز قوتها في مواجهة منافسيها الإقليميين.
عبر هذه السياسة، تمكّن الاتحاد السوفييتي من مدّ نفوذه في دول مثل الصومال وإثيوبيا؛ حيث قدَّم دعمًا كبيرًا عبر بناء الجيوش، توفير الأسلحة، وتقديم برامج تدريب للقوات المحلية.
كانت محاولات مواجهة النفوذ الغربي تتمثل في استغلال النزاعات الإقليمية مثل حرب أوجادين (1977-1978م)، التي دعم فيها الاتحاد السوفييتي إثيوبيا مقابل الدعم الأمريكي للصومال.
هذا الصراع أتاح لموسكو التوسع العسكري والدبلوماسي في إثيوبيا بعد خسارة حليفها الصومال. كما سعت السياسة السوفييتية إلى تعزيز النفوذ البحري عبر استخدام موانئ المنطقة كقواعد بحرية تخدم أهدافها الجيوسياسية، مثل ميناء عصب في إثيوبيا.
من خلال هذه الجهود؛ حاول الاتحاد السوفييتي تقويض الهيمنة الأمريكية وتأمين موقع متقدم يُمكّنه من الوصول السريع إلى الممرات المائية الدولية، وتوسيع نطاق تأثيره في منطقة إستراتيجية تشكل حلقة وصل بين آسيا وإفريقيا وأوروبا[3].
تعزيز الشراكة بين روسيا ودول القرن الإفريقي:
تسعى روسيا إلى تعزيز حضورها الاقتصادي في منطقة القرن الإفريقي من خلال توقيع اتفاقيات اقتصادية وتجارية مع الصومال ودول الجوار، بهدف تحقيق أهدافها الإستراتيجية في هذه المنطقة الحيوية.
في الصومال، تركزت الجهود الروسية على تطوير البنية التحتية وإعادة تأهيل المنشآت الحيوية التي تضررت بسبب النزاعات الطويلة، فضلاً عن تقديم دعم لوجستي وبرامج تدريب لتعزيز القطاع الزراعي، الذي يُعدّ العمود الفقري للاقتصاد الصومالي.
كما وقَّعت روسيا اتفاقيات لدعم مشاريع الطاقة، بما يشمل توفير التكنولوجيا اللازمة لإنتاج الطاقة الكهربائية، وهو قطاع حيوي تحتاجه البلاد بشدة لتحقيق التنمية الاقتصادية.
مع دول الجوار، وسعت روسيا تعاونها التجاري مع إثيوبيا من خلال مشاريع الطاقة النووية المدنية، وتزويدها بالتكنولوجيا والتدريب اللازم.
أما في إريتريا، فقد ركزت الاتفاقيات على تعزيز استثمارات التعدين واستخراج المعادن مثل الذهب والبوتاس، والتي تُعدّ موارد إستراتيجية في اقتصاد البلاد.
من جهة أخرى، تعمل روسيا على تعزيز تجارتها الثنائية مع السودان في مجالات الزراعة والمواد الخام، كما تهدف إلى فتح أسواق جديدة لمنتجاتها الزراعية والصناعية في المنطقة.
وتسعى موسكو من خلال هذه الاتفاقيات إلى تحقيق شراكات اقتصادية مستدامة تُعزز نفوذها الإقليمي، بينما تدعم دول المنطقة في تطوير قدراتها الاقتصادية
المساعدات العسكرية الروسية إلى الصومال:
تلعب روسيا دورًا مُهمًّا في تقديم المساعدات العسكرية للصومال في ظل الأوضاع الأمنية المعقدة التي تمر بها البلاد.
حيث قامت موسكو بتوريد الأسلحة والذخائر للصومال، في إطار دعمها المستمر للحكومة الصومالية في مكافحة الجماعات المسلحة مثل حركة الشباب.
إضافة إلى ذلك، توفر روسيا تدريبات عسكرية للقوات الصومالية بهدف تعزيز قدراتها الدفاعية وتحسين التنسيق بين مختلف الأجهزة الأمنية.
هذا الدعم العسكري يعكس إستراتيجية موسكو لتعزيز نفوذها في المنطقة، وتوسيع مجال تعاونها مع الصومال في الملفات الأمنية والجيوسياسية.
بجانب المساعدات العسكرية، تُواصل روسيا تصدير الأسلحة المتطورة والتكنولوجيا الأمنية للصومال ودول القرن الإفريقي، بما في ذلك تكنولوجيا الرصد والمراقبة التي تستخدمها القوات الحكومية في مكافحة الأنشطة الإرهابية.
من خلال هذه الصفقات، تحاول روسيا أن تبني قاعدة مستدامة من العلاقات الأمنية مع دول المنطقة، مما يُمكنها من بسط تأثيرها على الساحة الجيوسياسية في القرن الإفريقي.
كما تُسهم هذه الجهود في تعزيز صورة روسيا كداعم للسلام والاستقرار، خصوصًا في مناطق تعاني من نزاعات مستمرة.
وفيما يتعلق بالاستثمار في البنية التحتية؛ تضع روسيا خططًا إستراتيجية للاستثمار في موانئ الصومال، وتعتبرها حلقة وصل أساسية في شبكة النقل البحري العالمية.
فمن خلال تعزيز القدرة التشغيلية لموانئ البلاد، تطمح موسكو إلى تعزيز وجودها العسكري والتجاري في خليج عدن والبحر الأحمر، ما يمنحها موقعًا إستراتيجيًّا لدعم مصالحها الاقتصادية والعسكرية.
بالإضافة إلى ذلك، تُخطط روسيا للاستثمار في مشاريع البنية التحتية التي تشمل تطوير الطرق والمطارات لتعزيز التبادل التجاري مع الصومال ودول الجوار. وتهدف روسيا من هذه الاستثمارات إلى توسيع نفوذها الإقليمي وتعزيز مكانتها كلاعب رئيسي في القرن الإفريقي.
موقف روسيا من الفرص والأوضاع الراهنة في القرن الإفريقي:
مع تزايد النفوذ الروسي، تشهد علاقات دول الجوار مع روسيا تحولًا ملحوظًا، خصوصًا في ظل المنافسة مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين.
على سبيل المثال، قد تسعى إثيوبيا التي كانت تظل تحت التأثير الغربي إلى تقوية علاقاتها مع روسيا ضمن سياق التنويع في شراكاتها الدولية، خاصة بعد صراعاتها الداخلية وحاجتها إلى دعم اقتصادي وأمني.
من جهة أخرى، تُهدّد هذه التطورات بنسف توازنات التحالفات الإقليمية التقليدية، مثل تلك التي بين الصومال والدول الغربية.
إن دور روسيا كحليف مهم لبعض الحكومات في المنطقة قد يؤدي إلى تشكيل تحالفات جديدة تغيّر بشكل جذري التركيبة الإقليمية؛ حيث يسعى عدد من اللاعبين الإقليميين، مثل تركيا والإمارات، للحدّ من تأثير موسكو ودورها المتزايد في القرن الإفريقي.
وستُسهم هذه الديناميكيات في رسم خطوط جديدة للسياسة الخارجية للدول الإفريقية، بما يتماشى مع التغيرات الإستراتيجية التي قد تنشأ في المنطقة بسبب النموذج الروسي الذي يعارض نفوذ الغرب، ويعزز مفهوم الشراكات متعددة الأطراف لتحقيق مصالح مشتركة.
وفي خضم التغيرات السياسية والأمنية التي يشهدها القرن الإفريقي، يبقى السؤال الذي يثير الكثير من النقاش
هل تتمكن روسيا من تعزيز نفوذها في هذه المنطقة الحيوية على حساب القوى التقليدية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؟ وهل سيكون لتوسعها العسكري والاقتصادي تأثير طويل الأمد في استقرار الدول التي تتنافس للعب دور محوري في هذا الفضاء متعدد الأطراف؟ أم أن روسيا، كما حدث في فترات سابقة، ستواجه صعوبات في كسر الحواجز التي يضعها النفوذ الغربي والإقليمي؟
وهل ستنجح موسكو في بناء تحالفات حقيقية تقاوم الانقسامات الداخلية، أم أن الحروب الباردة الجديدة ستفاقم من التدخلات السياسية والاقتصادية لتجعل المنطقة مجرد مسرح لتنافس العظماء؟ وبينما تتصاعد الإستراتيجيات الجيوسياسية في القرن الإفريقي، يبقى من المستحيل الجزم بما قد ينتج عن هذا التدخل الروسي في مستقبل مشهد يزداد تعقيدًا كل يوم.
عن قراءات إفريقية بتصرف