يشير خطاب الحكومة الإسرائيلية المعلن إلى تصميمها على التخلص من حركة حماس نهائيا، وأن هذا الهدف الذي أعلن منذ بدء الحرب على قطاع غزة لا يزال محوريا، ودونه لن تستطيع القول إنها ربحت المعركة، بينما النتيجة التي يمكن أن يقود إليها إنجاز هذا الهدف هي تكسير المقاومة التي ظلت وسيلة تتذرع بها إسرائيل للهروب من فكرة السلام وتبرير تنصّلها من الدخول في أيّ عملية سياسية جادة.
وظفّت حكومات إسرائيلية متعاقبة ورقة حماس بصورة عسكرية وسياسية، وكانت أداة لتفسير عدم الانخراط في مفاوضات مع السلطة الوطنية بحجة أن وجود أكثر من جهة فلسطينية لا يضمن تطبيق ما يتمخض عن السلام، واتخذت من الحروب والانقسامات والتجاذبات العنيفة بين الفصائل دليلا على صواب رؤية روّجتها عالميا، اقتنعت بها أو تظاهرت بذلك قوى دولية فتجمدت التسوية السياسية سنوات طويلة.
إذا نفّذ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تهديداته باجتياح مدينة رفح في جنوب غزة والقضاء على أربعة كتائب تابعة لحماس، لن يجد جيش الاحتلال مبررا للبقاء في القطاع أو الدخول والخروج بحرية منه، فانتهاء الخطر الذي تمثله كتائب عزالدين القسام، الجناح العسكري لحماس، لن يسمح بممارسة هذا الدور مستقبلا.
كما أن انتفاضة المجتمع الدولي بشأن تأييد حل الدولتين ودعم التصورات المتداولة حول إمكانية إعلان دولة فلسطينية لاحقا يحرج إسرائيل سياسيا، وهي التي أعلن جميع قادتها رفضهم لهذا الطرح أو التحفظ عليه، فاختفاء حماس من المشهدين العسكري والسياسي يعني إتاحة الفرصة لإعادة بناء السلطة الفلسطينية، والتمهيد لظهور قيادة وطنية مرنة وقادرة على التعامل مع المعطيات الإقليمية والدولية المتشابكة، وبالتالي إحراج إسرائيل في عملية الإقرار بدولة فلسطينية قابلة للحياة.
يشير التفكير الإستراتيجي لدى قادة إسرائيل إلى الابتعاد عن القيام بأي قفزة في الهواء، فالقضاء على قوة حماس يفتح الباب للتفكير في مسألة الدولة، لكن سوف تتبين إسرائيل أنه خطر داهم عليها، حيث يغلب صوت الاعتدال الفلسطيني حال غياب حماس، ويتنحى فريق المقاومة لصالح التفاوض الذي انتكس عندما تحطمت عظامه السياسية، ولعبت إسرائيل دورا خفيا في إضعاف دور السلطة الفلسطينية وتشويه صورتها، وتقوية حماس وتعزيز نفوذها كحركة مقاومة إسلامية.
يصعب تخيل المشهد الفلسطيني من دون وجود مقاومة لها باع طويل في مناكفة إسرائيل، سواء أكانت تنتمي إلى حماس أو غيرها، فالمراقب يجد أن تقويض دور كتائب شهداء الأقصى وهي الذراع العسكرية لحركة فتح، أفسح المجال لظهور القسام، ثم سرايا القدس وهي الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي.
تخوض كل من كتائب عزالدين القسام وسرايا القدس غمار الحرب الحالية، واستهدافهما من قبل إسرائيل لا يفرق بينهما والقضاء عليهما في هذه الأجواء لا يضمن ظهور جناح عسكري يواصل مسيرة المقاومة وتتمكن إسرائيل من توظيفه ضمن لعبتها المفضلة “ضرب الفلسطينيين بالفلسطينيين” والاستفادة من وجود العناصر المسلحة التي تريد القضاء على إسرائيل للهروب من استحقاقات السلام.
كما أن حرب غزة التي مارست فيها قوات الاحتلال أبشع أنواع الانتقام والتدمير، يصعب أن تخرج من رحمها قوة فلسطينية مسلحة قادرة على مناوشة إسرائيل، فالعناصر المتبقية لدى حماس والجهاد ستكون منهكة ولن تستطيع أن تمتلك قوة تزعج جيشها ومستوطنيها ومتطرفيها، وهو ما يعني التجاوب مع بعض المطالب المتصاعدة المتعلقة بالبحث عن حل أو أفق سياسي يسهّل الطريق لقيام دولة فلسطينية.
يعلم قادة إسرائيل أن ظهور دولة فلسطينية بأيّ شكل ليس في صالح دولتهم، وأشار إلى ذلك نتنياهو أكثر من مرة في خضم الحرب، لكنه يصعب تكراره بعد هدوء العاصفة، واستعد مبكرا لسد الفراغ الناجم عن غياب حماس والمقاومة عموما إذا قرر تنفيذ سيناريو اجتياح رفح والقضاء على الكتائب الأربع الرئيسية التابعة للقسام من خلال التلاعب بملف المساعدات الإنسانية كي يصبح الورقة البديلة التي يتم بها استنزاف جزء من قدرات الشعب الفلسطيني، وصب اهتمام المجتمع الدولي عليها.
نجحت إسرائيل منذ سنوات في جذب الانتباه لملف المساعدات على حساب ملفات حيوية، مثل: الأرض والحدود وعودة اللاجئين والقدس وغيرها، فالجزء الإنساني بات طاغيا في القضية الفلسطينية، ومحل شغف لوسائل الإعلام وهي تتابع إغلاق المعابر الستة الإسرائيلية الرابطة بين غزة والضفة الغربية في صمت، والتشدد في دخول المساعدات عبر معبر رفح ومواعيد الفتح والإغلاق، وتحليق الطائرات فوق غزة لإسقاط المساعدات، ثم اختراع إنشاء ميناء في مياه غزة تتدفق منه المساعدات إلى المواطنين.
كل ذلك يحدث أمام العالم الذي يتجاهل النقطة المباشرة وهي الضغط على إسرائيل مباشرة لدخول المساعدات من المنافذ الحالية، والمثير أن نتنياهو ومتطرفي حكومته تجاوبوا مع إسقاط المساعدات وبناء الميناء، ما يعني أن هناك مصلحة إستراتيجية تحققها هذه الخطوات، ولو كانت نوايا البعض من المشاركين فيها حسنة، فالغرض لدى نتنياهو تفريغ القضية الفلسطينية من مضامينها الرئيسية، فإذا انتهى مفعول المقاومة يجب البحث عن أوراق أخرى لتشتيت الانتباه بعيدا عن الحلول الحاسمة، وتحصل إسرائيل بموجبها على مساحة حرة للمناورة.
تعتقد إسرائيل أن خسائرها من اختفاء حماس أكبر من مكاسبها، وربما إطلاق صواريخ من وقت إلى آخر من شمال قطاع غزة الذي قالت قوات الاحتلال إنها سيطرت عليه يكفي لتأكيد حجم الفائدة التي يجنيها نتنياهو من استمرارها.
فهي ليست دليلا على قوة حماس وقدرتها على الخداع، أو فشل جيش الاحتلال، بل لأن طيرانها من غزة إلى غلافها يعزز قناعة نتنياهو بأهمية مواصلة الحرب إلى حين تحقيق نصر كاسح، مشروط بالقضاء على حماس وإطلاق الأسرى والمحتجزين.
يعلم رئيس الحكومة الإسرائيلية أنه في اليوم التالي الذي يعلن فيه الانتصار على حماس عليه مواجهة مصيرين لا يريدهما، الأول: مواجهة تحقيقات سياسية وقانونية بشأن ما حدث في السابع من أكتوبر الماضي، ويتذرع بتعطيلها حاليا بسبب الحرب التي يخوضها وما تحظى به من دعم من جانب مؤيديه وخصومه، والثاني: التماهي شكلا مع طرح إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بشأن الدولة الفلسطينية، والذي يواجه انتقادات حادة داخل الحزب الديمقراطي لدعمه الكبير لإسرائيل.
يمثل وجود بقايا من حماس على الساحة الفلسطينية حاجة إسرائيلية، لا ترتبط بنتنياهو وحساباته الراهنة، فالمقعد الذي يجلس عليه لن يستمر طويلا، وسيأتي من يخلفه على شاكلته أو أشد تطرفا أو أقل، لكنه في النهاية سوف يسير على المنهج ذاته مع إدخال رتوش قليلة عليه، فمجتمع إسرائيل يتضرر من السلام أكثر من الحرب.