لقد أجبر الانهيار المفاجئ لنظام بشار الأسد في كانون أول/ديسمبر 2024 روسيا على إعادة النظر في موقفها الاستراتيجي في الشرق الأوسط. في حين كانت السياسة الخارجية الروسية تؤكد تقليديا على الاستفادة من القوة العسكرية والتحالفات لفرض النفوذ، فإن المشهد ما بعد الأسد يتحدى هذه الافتراضات. فالزلزال السياسي السوري أدّى إلى تغيّرات مهمة في مقاربات موسكو الإقليمية والدولية. فدعمها للنظام السوري السابق كان حجر أساس في نفوذها الإقليمي في غرب آسيا ومحرّك رئيسي لخياراتها التحالفية في المنطقة.
سوريا ورؤية موسكو العالمية
لطالما كرّر ألكسندر دوغين، أحد أهم الفلاسفة الروس الذي كان في مراحل سابقًا مقرّبًا من الكرملين، تأكيده على أن التعدّدية القطبية هي الحل الأمثل لمواجهة الهيمنة الغربية العالمية. فيعتقد دوغين أن العالم المتعدد الأقطاب هو الترياق الطبيعي للهيمنة الغربية أحادية القطب. وبالتالي فإن عودة قوى عظمى للصعود، مثل روسيا، هو شرط لتحقيق الاستقرار الذي بدّده الغرب بمشاريعه الاستعمارية وسعيه الدائم لفرض “الديمقراطية الليبرالية“.
إن هذا الإطار يساعد في تفسير تدخل روسيا في سوريا في عام 2015، حيث سعت إلى تأكيد مكانتها كقوة عالمية من خلال الحفاظ على حليف مخلص. فالتدخّل الروسي في سوريا كان بمثابة نقطة تحول في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي. فقد تسبب انهيار الاتحاد السوفييتي في تراجع حاد في مكانة روسيا الدولية. وعلى مدى عقدين ونصف من الزمان بعد عام 1991، عملت موسكو على استعادة مكانتها وهيبتها ونفوذها المفقود على الساحة العالمية. فكانت سوريا بمثابة تتويج لهذه العملية: أول تدخل حاسم لروسيا خارج جوارها المباشر ما بعد الاتحاد السوفييتي في أحد الصراعات المركزية في العالم.
ويؤكّد فيودور لوكيانوف، رئيس تحرير مجلة روسيا في الشؤون العالمية ورئيس هيئة رئاسة مجلس السياسة الخارجية والدفاعية، أن نجاح موسكو في سوريا جعل القوى الرئيسية في غرب آسيا، السعودية، وتركيا، وإيران، وحتى إسرائيل، تدرك أن روسيا هي طرف رئيسي في المنطقة. ويضيف أنه مع “تفكك النظام العالمي، عززت مشاركة روسيا في تشكيل المنطقة، من البوابة السورية، مكانتها على طاولة القوى العالمية“. وبالتالي هذا يعكس أهمية سوريا بالنسبة للكرملين، حيث اعتبر القادة الروس أن نفوذ موسكو وحضورها في سوريا كان له دور رئيسي في إعادة البلاد إلى الملعب الكبير وهذا ما يؤكّد أن سوريا لم تكن يومًا ساحة ثانوية لروسيا، بل كانت جزءًا من مشروع موسكو بتأكيد حضورها في النظام العالمي الجديد الذي ترغب أن يكون متعدّد الأقطاب.
من هنا، فإن انهيار نظام الأسد أدّى إلى صعود آراء روسية تنتقد الرؤية السابقة، حتى اعتبر البعض أن هذه الرؤية كانت هشة، والحقيقة هي أن الجهات الفاعلة الإقليمية مثل تركيا وإيران هي المؤثّر الأساس في تشكيل غرب آسيا وليس القوى العظمى. ويشكّل هذا تغييرًا جوهريًا في مقاربة النخب الروسية لسياسات موسكو العالمية.
فاعتبرت النخب الروسية أن سقوط الأسد شكّل لحظة فاصلة تؤكد حدود النفوذ العسكري والدبلوماسي الروسي في منطقة تتشكل بشكل متزايد من قبل القوى الإقليمية. فالدور المتقلص للقوى الخارجية مثل الولايات المتحدة وروسيا في سوريا يسلط الضوء على النفوذ المتزايد للجهات الفاعلة الإقليمية.
وانطلاقًا من هذه القناعة أكّد لوكيانوف “ضرورة مشاركة روسيا بشكل عملي مع أصحاب المصلحة الإقليميين، مثل تركيا وإسرائيل ودول الخليج، لحماية مصالحها”. الأمر الذي أشار إليه أيضا تيموفي بورداتشيف، المدير العلمي للمركز العلمي والتعليمي الدولي للدراسات الأوروبية والدولية الشاملة التابع المدرسة العليا للاقتصاد، إحدى أهم جامعات روسيا. فاعتبر بورداتشيف أنه على روسيا التأقلم مع التغيّرات الجديدة والظهور كطرف مقبول للجميع في المنطقة.
ولعل أكثر المتأثّرين في هذه الآراء هي إيران، التي كان الخطاب النخبوي الروسي سابقًا يؤكّد على أن العلاقة الاستراتيجية مع طهران هي الحجر الأساس لنفوذ روسيا في غرب آسيا. فبعد سقوط الأسد ظهرت كتابات روسية متعدّدة تؤكّد أنه على موسكو اليوم ألا تظهر كطرف مقرّب من قوة إقليمية على حساب قوى إقليمية أخرى. والأولوية يجب أن تكون السعي لبناء علاقات براغماتية مع كل قوى المنطقة بطريقة لا تستفز أطراف محدّدة. كما تروّج الكتابات الروسية إلى أن زلزال سوريا السياسي والحروب الإسرائيلية على غزة ولبنان والعمليات العسكرية الأميركية في اليمن والعراق أدّت إلى إضعاف طهران وهذا دافع لإعادة تحديد العلاقات الروسية الإيرانية.
إقرأ أيضا : أيام عصيبة تنتظر أوروبا بعد توقف إمدادات الغاز الروسي عبر أوكرانيا
بطبيعة الحال هذه الآراء ما تزال عند النخب في روسيا ولم يظهر أي موقف روسي رسمي يدعمها. ولكن مجرّد ظهورها بكثرة في منصّات مثل مركز فالداي للنقاش ومجلس العلاقات الخارجية الروسية ومجلس السياسة الخارجية والدفاعية، وهي مراكز دراسات روسية مقرّبة من الخارجية الروسية، يدفعنا لأخذها بعين الاعتبار ومراقبة السياسات الروسية المستقبلية لفهم حجم تأثير هذه المقاربات على موقف الدولة الرسمي.
حدود القوة العسكرية
لقد دفع الفشل في دعم نظام الأسد صناع السياسات الروس إلى إعادة تقييم فائدة التدخلات العسكرية. وكما يوضح أندريه كورتونوف: “تُظهر التجربة السورية أن الانتصارات العسكرية غير كافية لتأمين الاستقرار السياسي الطويل الأجل أو المكاسب الجيوسياسية. يتطلب النفوذ المستدام التكامل الاقتصادي والقوة الناعمة”. ويتماشى هذا النقد مع الخطاب الأكاديمي الروسي الأوسع نطاقًا حول حدود الأحادية في العلاقات الدولية. في كتابه “ما بعد الإمبراطورية: قصة أوراسية“، يحذر دميتري ترينين من أن الإفراط في الاعتماد على الأدوات العسكرية يهدد بإفراط روسيا في استنزاف مواردها وتقويض أهدافها الاستراتيجية الطويلة الأجل.
من هنا اعتبرت بعض الكتابات أنه يتعيّن على روسيا أن تتجه نحو الشراكات البراغماتية، والاستفادة من العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية الإقليمية بدلاً من القواعد العسكرية والتدخلات المباشرة. ويؤيد هذا المنظور تقرير نشرته الخارجية الروسية عام 2023، أعدته مجموعة من الخبراء برئاسة الأستاذ الفخري والمشرف الأكاديمي على كلية الاقتصاد العالمي والشؤون الدولية في المدرسة العليا للاقتصاد، والرئيس الفخري لهيئة رئاسة مجلس السياسة الخارجية والدفاعية ورئيس برنامج تحليل الموقف سيرغي كاراجانوف، والذي يدعو إلى نهج “السياسة الواقعية” معتبرًا أنه في عالم متعدد الأقطاب، يعتمد نجاح روسيا على قدرتها على العمل كقوة مرنة ومستقلة، وقادرة على تشكيل تحالفات مؤقتة مع تجنب الإفراط في الالتزام.
نحو دور روسي جديد
لقد أجبرت حقبة ما بعد الأسد في سوريا روسيا على مواجهة حدود قوّتها وتبني نهج أكثر دقة في العلاقات الدولية. وفي حين يمثل سقوط الأسد انتكاسة، فإنه يوفر أيضاً فرصة لموسكو لإعادة تعريف دورها كقوة إقليمية في عالم متعدد الأقطاب. خاصة أن موسكو مقتنعة بأن تراجع الهيمنة الغربية في غرب آسيا يخلق مساحة للاعبين الإقليميين لتأكيد أنفسهم، مما يقلل من نفوذ القوى العالمية مثل روسيا والولايات المتحدة. وبالتالي فإن قدرة موسكو لتثبيت نفوذها في غرب آسيا يحتاج مقاربة جديدة تعطي فيها مساحة أوسع للقوى الإقليمية لتحقيق مصالحهم وتكون هي الوسيط البعيد الذي يستطيع التواصل مع الجميع.
من هنا عاد الحديث في الأوساط العلمية والإعلامية الروسية على ضرورة إعادة تعريف مفهوم “القوّة العظمى في وقت يتحوّل فيه النظام العالمي”. فروّجت النخب الروسية إلى أن القوّة العظمى هي ليست تلك التي تتمتّع بقواعد عسكرية تنتشر في المناطق المختلفة. وهي ليست الدولة التي تتدخّل في الأقاليم المختلفة عند كل حدث كبير. بل إن القوّة العظمى في المرحلة الحالية هي تلك التي تستطيع تأكيد هيمنتها في محيطها الجغرافي المباشر.
ومن هذا المنطلق، تعتبر موسكو أنه يجب عليها تركيز جهودها على تعزيز دورها كقوة إقليمية مهيمنة، مع الانخراط العالمي بشكل انتقائي فقط في الحالات التي تتوافق مع مصالحها الوطنية الأساسية. ويعكس هذا التوجه إعادة تقييم لدور روسيا كقوة إقليمية، وهو ما يمكن أن يمثل، بحسب لوكيانوف، خريطة طريق واقعية للبقاء في ظل النظام العالمي الممزق الحالي، بعيداً عن اعتباره تنازلاً أو إهانة. بمعنى آخر، أوجبت الواجبات اليوم بالنسبة لموسكو هي الانتصار في أوكرانيا وتأكيد أنه هي وحدها تهيمن على أوراسي.
يمثل هذا التحول نقطة تحول في السياسة الخارجية الروسية، ويشير إلى التحول من العولمة الطموحة إلى البراغماتية الاستراتيجية. والطريقة التي تتعامل بها موسكو مع هذا التحول سوف تشكل موقفها في النظام الدولي المتطور لعقود قادمة.